حركة النهضة وخطاب التطرف العلماني


ليس مستغربا أن يطرح النقاش حول المنهج الاسلامي والعلمانية الغربية على طاولة الحوار في هذه الفترة وخلال هذا المنعرج الذي تشهده تونس اليوم فمن المعتاد أن تعود هذه المصطلحات للساحة حال ظهور إيديولوجيات مختلفة ورؤى متباينة تتبناها أحزاب وأطراف مختلفة فالكل يسعى لتوضيح أفكاره وتوسيع قاعدته الشعبية وكسب المزيد من الحضور الأوفر في الإعلام. كما لا يخفى على أحد أن الحزب الذي ذاع صيته الآن في تونس وعاد بقوة إلى الساحة هو حركة النهضة التونسية والتي أخذت التأشيرة بعد ثلاثين سنة من منعها وقمعها والتنكيل بأعضائها.
لا نستغرب هذه الحوارات ولا هذه المناقشات والتي قد تكون حادة في بعض الأحيان بل إن هذه علامة صحيّة في مجتمعنا لم تكن ظاهرة للعيان من قبل والواجب علينا التعامل معها بكل جدّية واحترام لوجهات النظر المختلفة حتى لا نقع في المحظور ولا تحصل تجاوزات من أي طرف فالتعامل مع الأوضاع بالحكمة والمجادلة بالتي هي أحسن مطلوبة وبشدّة خاصة والبلاد تمر بشبه أزمة وتشهد أوضاعا لم تكن سائدة من قبل.
هذا ما تأبى بعض الأطراف أن تعيه وتفهمه فيخرج بعضهم على أصول الحوار الجاد ليسف إلى كلامه سبا وشتما لأصحاب "التوجّهات الظلامية" ويرفض رفضا قاطعا التنازل على "المكتسبات الحداثية" التي شهدتها البلاد ومثل هذا الكلام الكلاسيكي الذي تعوّدنا عليه في كل كلمة يلقيها أي حزب من تلك الأحزاب الـ60 (أو أكثر) بهدف الطعن في الإسلاميين وكأن هؤلاء يشكلون البعبع الذي يفكّر في إعادتنا للعصر الحجري أو العصر الجاهلي ! إن المواطن التونسي ينتظر من الأحزاب الأخرى أن تبدي وجهة نظرها وتطرح مرجعيتها وتبيّن أهدافها وليس  مجرد الاقتصار في الطعن في هذا أو النيل من ذاك !
يطلع علينا من حين لآخر من يتّهم حركة النهضة بالعمالة لإيران وحزب الله ثم يضيف آخر أن الحركة متعاملة مع السعودية وقطر والإمارات وإسرائيل وأمريكا (...) ولا يتردد ثالث في أن يصرّح أن الحركة على صلة وثيقة مع طالبان. إيران وحزب الله من جهة وأمريكا وإسرائيل ودول الخليج من جهة أخرى وطالبان آخرتهم. ثلاثة أطراف على صراع دائم ولم تستقر على حال منذ أول الدهر يريد البعض إيهامنا أن النهضة تمكنت من ترويض جميع هذه الأعداء والتعامل معها في الوقت ذاته ! فعلا ينبغي محاسبة أي طرف يتعامل مع أطراف خارجية بهدف العمالة وتغليب مصلحتهم على مصلحة الوطن، ولكن كيل الاتهامات جزافا هكذا دون أدلة صحيحة، تقدّم للقاضي لمحاكمة النهضة، تجعلنا نعيد النظر في ما يدور حولنا لنعلم أنها مجرّد اتهامات صبيانية هدفها الأول والأساسي تخوين الحركة وأبنائها الذين صبروا على سياط الجلاّدين ثلاثين سنة وخرجوا من ظلمات السجون إلى ظلم خطاب التطرف العلماني وهم الذين لم يسألوا لا شكرا ولا جزاءا ولم يقدّموا أنفسهم على أساس بطولة أو شجاعة ولم ينتظروا الأجر من أي كان وإنما أجرهم على الله. يصيبني الأسى حين أرى بعض المترددّين على الحانات صباحا ومساءا في عهد ابن علي ولم يسمع بنبأ الثورة إلا يوم 14 جانفي أن يسبّ ويشتم بل ويخوّن مناضلين سابقين (أيا كانت ايديولوجيتهم)، فإذا لم تستحي وتطأطئ رأسك احتراما لنضالهم فانظر لهم باحترام وذلك أضعف الايمان.
ويمكن أيضا ملاحظة تسليط الأضواء على حركة النهضة من خلال قضية الشيخ مورو ومحاولة إختلاق نزاع بين كبار الحركة رغم أن الشيخ مورو صرّح في أكثر من مرّة أن العلاقة معهم هي على ما يرام والأستاذ علي العريض صرّح يوم السبت 23 أفريل أن الشيخ مورو هو من أبرز القياديين في الحركة والتشاور معه لا يزال قائما وما جعل الشيخ متردد هو مهمته الدعوية وخاصّة خطبة الجمعة. كما أن صبغ تصرّفات فرديّة لبعض الناس على الحركة يشكّل هو الآخر خطأ  جسيما يسقط فيه الكثير من العلمانيين مثل قضيّة ضرب النوري بوزيد وقضيّة أمير المؤمنين المختلقة وطرد الأئمة التجمعيين وأعنفها هي قضية قتل القس والتي توجهت أصابع الاتهام إلى الإسلاميين دون هوادة وخبر الماء فرق الذي سكب على بنت في العشرين من عمرها لأنها متبرجة الذي نشره الصحفي حمدي مسيهلي في موقع باب نات ثم اعتذر عنه هنا ( لا شك أن الأهداف كلها سياسية بهدف الطعن في حركة النهضة !) وغيرها مما يدور في ربوع البلاد وكأن حركة النهضة ينبغي عليها أن تكون "الشمس التي تزرق على كل تونس" لمتابعة أخطاء هذا الفرد أو ذاك، وينبغي أن نلفت نظر القارئ إلى أن من يصلّي في المسجد لا يعتبر بالأساس من النهضة فإن المسجد لله وليس حكرا على حركة ما وهذا ما يعرفه العلمانيون جيدا وكثيرا ما أعادوه على مسامعنا حتى لا تدرج الخطابات السياسية في خطب الجمعة (وهذا الذي نادت به الحركة أيضا في العدد الثاني من صحيفتها الفجر تحت عنوان "وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا") قلنا أن المساجد ليست حكرا على أحد فهي المكان الذي يجمع كل المسلمين وكأن فيه تذكيرا لنا أن مهما اختلفنا وتباعدت أفكارنا فنبقى في آخر المطاف مسلمون نحمل همّ هذه الأمة ونرجو لها الخير. لكن إذا أخدنا الأمر من جانب آخر، نجد أن العلمانيين يتعمّدون إلزام النهضة بأي خطئ فردي يقع في رحاب جامع ما وكأنهم يريدون أن يقولوا أن الحركة استولت على جميع المساجد ! فأمر الدعاية السياسية محسوم في المساجد ولا يجادل فيه أيا كان ويبقى الخلاف القائم في التحدّث عن الأمور السياسية والاجتماعية وتبيين الحكم الشرعي في قضايا البلاد فالعلمانيون يريدون أن يبقى المسجد للصلاة والدعاء ثم يغلق وقياديي النهضة يرفضون أن يصبح المسجد كالكنيسة فدوره ريادي منذ العصور الغابرة وينبغي أن يبقى كذلك. ولا أعرف إن كان أصدقاؤنا العلمانيون "سيسمحون" للخطباء أن يذكروا تفسير آية "ان الحكم إلا لله" وغيرها من الآيات والآحاديث ويذكروا تفسير ابن كثير والطبري وغيرهم أم أنهم سينتقون للأمة ما هو محرم وماهو طيب حلال للذكر في المساجد. إنهم يعيبون على الحركة الازدواجية في خطابها فلتقولوا لهم :
لا تنهى عن منكر وتأتيه عار عليك إذا فعلت كبير
 إن مثل هذه الاتّهامات التي تكال للإسلاميين من قبل نخبة علمانية تدعى مثقفة تشكّل حجر عثرة في مسار حوار ديمقراطي وشفّاف يقبل الآخر ويناقش أفكاره ولا يناقش شخصه. إذا أخطأت امرأة متبرجة (يعني لا تلبس حجاب) في فعل ما لم يقل أحد الإسلاميين أن هذا الخطأ هو ما تقع فيه جميع المتبرجات كذلك ان أخطأ شيوعي أو علماني أو ملحد أو ... أما إذا أخطأ ملتحي أو محجّبة قالوا أن هذه هي حقيقة الاسلاميين (بل وربّما يقولون النهضويين، فالأهداف سياسية حجبت المنطق عندهم) وهذه هي تصرفاتهم وعاداتهم. وبطبيعة الحال يستعمل هذا النوع من التعميم في أعمال العنف خاصة فيقال أن الاسلاميين كلهم يتبنّون العنف والماء فرق والمحاورة باستعمال السيوف (...) وهذا الخطاب المتطرف للعلمانيين والفاقد للمنهجيّة، والذي تعوّد على تهافته أغلب التونسيين، يجرنا العلمانيون إلى منزلق خطير يمكن أن يقع فيه بعض الأطراف الغير مسئولة فتتبنّى العنف بعد أن تشبّعت بهذا التخوين والاحتقار والانتقاص فيتساوى حالهم ان بقوا على مسالمتهم واحترامهم للآخر بحالهم إن هم أرهبوا وانتهجوا منهج العنف واستعمال القوّة، فهم في كلتا الحالتين إرهابيين فينتهجون على إثر هذا الافتراء العلماني منهج العنف فعلا في محاولة يائسة للفت النظر وكردّ فعل خطير ترفع على إثره طاولة الحوار وتعاد سياسة القمع وتكميم الأفواه. هذا هو الخطاب التي تشبعت به الصحف العربية من قبل بعض السحافيين والمثقفين التافهين الذين يرون في بتر الحركات الإسلامية هو السبيل لنجاحهم حتى إن كان ذلك على مصلحة البلاد والعباد، وقد أبدع الكثير من "المثقفين" عندنا في سلوك هذا المسلك وكان تهجّمهم على الحركات الإسلامية كبيرا بقدر الإقبال عليها وشعبيتها عند الكثير من التونسيين.
من نتائج هذا الخطاب المتطرّف أيضا أن أدخلت الأمور التافهة في مشاكل بلادنا وقد راعني ما سمعت حين سألت إحداهن الأستاذ راشد الغنوشي عن الرقص وهل سيتم التخلص منه حال حصولهم على الحكم أو ماذا، وآخر لا يزال فؤاده ممزقا من كلام الأستاذ الغنوشي على إذاعة شمس آف آم حين صرح أن الحركة تنحو نحو الترفيع في الضرائب على الخمر إلى حين منعه تماما. هذا حالنا حين تعمم التفاهات وتصبغ بصبغة مشاكل الأمة وتجعل أهميتها (أهمّية !!) أكثر من الطوام التي نتخبط فيها. ان أردتم أن تعرفوا مستقبل تونس في أذهان البعض فتبيّنوا من أسئلتهم فعلى قدر همتهم تطرح أسئلتهم، إنهم يرون تونس خمرا وميسرا ودورا للزنى والعهر والمصيبة كل المصيبة إذا استجبنا لتراثنا الذي يزدري هذه الأمور، يفدون دور الخمر بأرواحهم ولا نستغرب بما أن الإقبال عليها أكثر من الإقبال على دور الثقافة المغيبة في بلادنا.
بعد هذا السقوط في التفاهات ومناقشة أهم ما حققته لنا دور العهر والخمر عبر التاريخ وأهم مكتسباتها الحداثية (!) يضطر بعض العلمانيين إلى انتهاج منهج أشد خطورة وأكثر تطرفا من خلال سب الإسلام والتشكيك فيه وهذا يحصل مرارا وتكرارا وهذه آخر حجّة للعلمانيين (أو لنقل بعضهم) ففي أنفسهم شيء يحاولون عدم التصريح به حتى إذا اشتدّ الحوار تكلمت قريحته وجاد عليك بمجموعة من الشبهات التي تلقاها من أفلام هوليود وهذا ما وجدته عند الكثير منهم بعد إن استدرجتهم للتحدث في هذه الأمور (وقد ناقشنا مجموعة منها في المقال السابق حوار مع صديقي العلماني). أما الازدواجية في الاستدلال فهي حاضرة هي الأخرى بقوّة في حديثهم فهو يعقد الولاء والبراء على الخمر والميسر في حين أنه يرفض رفضا قاطعا المخدّرات ولنا أن نسئل بأي مقياس تقبل هذا وترفض ذاك ؟! أليست هذه حرام والأخرى كذلك ؟! أم أنك تقبل على الأولى ولا تدمن الأخرى ؟! كذلك بالنسبة للتحدث على الحركات الإسلامية ككل ففي حين أنهم يطعنون في معلوماتك ان أنت تحدثت على العلمانية الفرنسية أو الأمريكية ويقولون أن العلمانية علمانيات وليسوا كلهم سواء، يلزمونك أنت بحركة طالبان أو بتجربة السودان او الصومال ويجعلونك نسخة منهم لا تستطيع أن تقدّم أفضل من ذلك. فهم ينزعون مثال فرنسا عنهم أو العلمانية الشاملة ويلزمون الإسلاميين بمنهج معيّن دون غيره، ثم يقولون ازدواجية في الخطاب !
لا أنفي أخطاء أفراد من الإسلاميين وأرجوا أن أخصص لها مقالا في المستقبل القريب ان شاء الله لكن أريد أن ألفت انتباه أصحاب مختلف الأفكار إلى أن يجعلوا مستقبل بلادهم هو الأساس وليس مستقبل حزبهم أو فئتهم. ثم إنني تحدثت على النهضة في هذا الموضوع لأن خطاب التطرف العلماني موجّه عليها بالأساس أكثر من غيرها وذلك لسبب بسيط لأنها تشكّل أبرز تهديد على الأحزاب العلمانية الأخرى وليست المشكلة في وجود الإسلاميين في البلاد ولكن المشكلة في تطلعهم للسلطة ومنافستهم للأحزاب العلمانية وهذا لا يعني أن خطاب التطرف العلماني أتى على النهضة دون سواها بل إنه امتدّ ليطعن في جميع الحركات الإسلامية ويشكك في مصداقيتهم ووطنيتهم بل وربما دينهم كثير من الأحيان، فالتكفير لا أيديولوجية له.