هل العلم يناقض الدين ؟





في القرون الوسطى ، اعتبرت الكنيسة العديد من العلماء أعداء للإيمان بالله وأعداء للدين ، لأنهم قد أثبتوا مستعينين بالعلم أن العديد من الحقائق العلمية تناقض ما ذكرته التوراة والإنجيل وتفنده وكان هذا سببا كافيا لتفرض الكنيسة حكمها مستعينة بنفوذها وقوتها مسلطة حكما قاسيا على هؤلاء العلماء وصل لحد
الإعدام في عديد الحالات. ولهذه الأحداث صدى يتردد دائما لدى البعض ليقنع نفسه أن الدين والعلم لا يجتمعان فيبطل جميع الأديان من غير مراعات الاختلافات الكبيرة بينها والفروق العظيمة ولكنه يضع جميع الأديان في بوتقة واحدة وتحت
سقف واحد فحمل بعضها خطأ الآخر زاعما أن كل الأديان تدعوا للجهل وتدعوا لنبذ العلم فمثله كمثل القاضي الذي لم يسعى لإدراك الحقيقة بين مختصمين ولم يكرس للعدل بينهم أدنى جهد ولكنه اختار الحكم عليهما بالسجن ، وقد ذكرني هذا بأحد القضاة المغفلين حين فعل هذا، فلما سئل عن سبب فعله برره بقوله :"المهم لم يفلت مني الظالم" !! أقل ما يقال عن هذا القاضي أنه فاشل ، لهذا لا ينبغي أن نبطل البوذية بسبب خطئ في النصرانية ولا ينبغي أن نحكم على الإسلام بسبب خطئ في اليهودية ، وهكذا. والأدلة من القرآن والسنة التي تدعوا للتعلم وترفع من قدر العلماء أكثر من أن تحصى وأكثر من أن تعد والكل يعرفها ومنكرها جاحد ومفتر ونجد هذه الآيات والأحاديث تتجسد في تاريخ المسلمين لتمزج بين الدين والعلم في تناسق فريد فكان أحدهما داعما للآخر وحجة له، فأضفيا صبغة رائعة على حضارة عظيمة محركها هو الدين مع العلم. وما علينا إلا أن نلقي نظرة على تاريخ المسلمين ليعلم كل منّا علم اليقين أن الإسلام لا يدعوا للجهل ولا لتحقير العلماء ولذلك يقول المفكر جارودي منتقدا مقولة الدين أفيون الشعوب بقوله : " فالقول بأن الدين في كل زمان ومكان يصرف الانسان عن العمل والكفاح متناقض تناقضا صارخا مع الواقع التاريخي ".*1*


وكان من جرّاء هذه الادعاءات الزائفة وهذا الخلط الرهيب بين الأديان ، أن قال عالم الجينات جيري كوين : "لو أراد تاريخ العلم أن يقول لنا شيئا واحدا ، فسيقول بأننا لم نكن نكتشف أي شيء لو وضعنا لافتة (الله) على مواضيع جهلنا" ويقرر ريتشارد داوكنز هذا بقوله :"لماذا يعتبر الله شرحا لكل شيء؟ هو ليس شرحا ، بل بالأحرى هو فشل في الشرح ، لا مبالاة، هو عبارة عن (لا أعرف) متنكرة بالروحانيات والطقوس" *2*
باختصار فإن فكرتهم تتلخص في الآتي : إذا وجدنا أي ظاهرة لا نعرف سببها وأصلها ولا نجد تفسيرا علميا واضحا مبينا لها قلنا "أثبتنا وجود الله" أو قلنا "إذا الله موجود".
هذا هو تفسير نظرتهما حيث جعلا الإيمان نسخة من الجهل ، وخلال قراءتي للفكرة تذكرت نظرة الكنيسة للعلم والعلماء في العصور الوسطى وهذا ما دفعني لوضع مقدمة بسيطة حولها وحول الخلط بين الأديان ، وأعتقد أن تلك الحادثة (وأمثالها) نتج بسببها آراء وأقوال كالتي سبق وأوردناها. والسؤال الذي يمكن أن نطرحه هو : هل الله يتجلى "فقط" في الأمور التي نجهلها؟ وهل هي "فقط" سبب ايماننا بالله؟
إن قول كهذا (لداوكنز) : "الفراغات بالأساس في عقل الخلوقيين ، تملأ بواسطة الإله" *3* يضطرني للقول أن الملحد يريد أن يجد في هذا الكون عملية سحرية (لا يوجد لها تفسير علمي) يؤمن من خلالها بوجود "ساحر" عظيم قام بهذا الفعل !! وكمثال على هذا فإن الملحد يريد أن يضع لقمة في فمه وبطريقة سحرية ودون أن يحرك يده تنتقل اللقمة إلى فمه انتقالا غريبا لا يجد له تفسيرا ومن ثم يؤمن بأن الله موجود !! وطبعا فهو يضرب بذلك كل القواعد الفيزيائية والعقلية وأي قاعدة علمية أخرى، يضرب بها عرض الحائط وهذا سبب قولهم أن الله يتجلى في الجهل فقط بحيث أنك إذا فسرت الأمر بنظرة علمية كأنك أثبت عدم وجود الله !!
إن الله تعالى جعل لهذا العالم قواعد وسنن محكمة لا تتغير ولا تتبدل ، وهي بلا شك حجر الأساس التي تقوم عليها العلوم وتبنى ولا سبيل للمعرفة إذا تدخلت قدرة سحرية تغير حياتنا في كل حين وفي كل زمان بحيث تكون هي الأساس فيها ، وكما نعلم فالأخذ بالأسباب واجب يثبته ديننا الإسلامي حيث يقول الشيخ المديني :" إن الدين يقرر أن الكون قد نشأ بخلق الله له ، ضمن نظام الأسباب والمسببات ، التي إذا اكتشف الباحثون شيئاً منها سمَّوها قوانين طبيعية".*4* ونظام المسببات هو دافع للإيمان بالله عز وجل لأنك تلاحظ فيه إحكاما وتناسقا بديعا لا يمكن أن يكون إلا من تدبير خالق عليم حكيم لهذا الكون أما إذا غابت هذه المسببات وتقدمت العشوائية لتكون هي الأساس فيه وتتلخص الإجابة حينها في "اللاإجابة" والعلم في "اللاعلم" فيغيب العقل وينعدم التفكير فنتسبب ببتر للاستنتاجات وإقصاء المنطق وعزل العلم عن حياتنا بسبب تدخلات عشوائية من حين لآخر في نظام الكون. وإنني أريد أن أؤمن بذلك الإله الذي يحثنا على المعرفة وإدراك الأمور على حقيقتها لاقتطاف ثمرات ولو كانت قليلة من شجرة ذات فروع كثيرة تسمى العلم أفضل من إيماني بإله لا يترك لي مجالا للبحث والتعلم وتكون حياتي بذلك حياة عشوائية ، إذ ذاك يعتاد الإنسان حينها على هذه الحياة التي تتسم بغياب أدنى القوانين الطبيعية والتي لا تحكمها قواعد محكمة ولا سبيل لمعرفة العلوم فيها بل يكون فيها الإنسان كبيدق ضعيف في رقعة شطرنج تتدخل فيك من حين لآخر قدرة غريبة تحركك لا تستطيع إدراكها ولا تستطيع أن تعيها حيث أنك فقط تعتاد عليها وتكون بذلك عادة في حياتك ، فلا أنت تستطيع إثبات وجود الله بالخلق المحكم الذي يندرج تحت قواعد منسقة ولا أنت تدرك أن هذا التدخل الذي يحصل هو تدخل إلهي ، لأنها ببساطة صارت عادة ولا تستطيع أن تعتبرها خارقة للقواعد الطبيعية ، ثم كيف السبيل للمقارنة في هذا الكون "السحري"، الذي يبغيه الملحد للإيمان بالله ، مع الأصل ؟! لكن أي أصل وأي قواعد ؟! لا تنسى أن القواعد أبطلت بهذا المفهوم وصار الكون مجموعة من التداخلات التي لا نجد لها تفسير فقد غابت القوانين الطبيعية لتكون الأصل في المقارنة، يقول الشيخ المديني:" ولو كان نظام الكون سائراً في متكرر العادة على أن الصخور متى نضجت في أشهر معينة ، وبطرق معينة ، تحوَّلت نوقاً وأبقاراً وزرافات وشياهاً بحسب اختلاف أنواع الصخور ، لكان ذلك هو السنَّة الثابتة في نظرنا ، ولكان خلاف ذلك هو المعجزة . ولو كان نظام الكون سائراً في متكرر العادة على أن الماء يجري من أسفل الوادي إلى أعلى الجبل بنفسه ، من غير أن تكون له حافات تسنده ، ولا روافع ترفعه ، لكان ذلك هو قانون الماء الثابت في نظرنا ، ولكان خلاف ذلك هو المعجزة التي يتشكك بها ويطلب إثابتها بالدليل ." *5*،وطبعا هنا سيدلي الملحد برأي مخالف لسابقه فيصرح قائلا :" لو كان الكون مندرجا ضمن قواعد دقيقة محكمة لآمنت بالله." ولا شك في هذه الحالة أنه يريد أن يؤمن بإله مدبر قادر يضع قوانين حكيمة ليسير في ظلها خلقه. وهنا نجد المفارقة العجيبة أو ان شئت قل "المعادلة الصعبة" : إذا كان الكون محكما منضبطا في قواعد وسنن طالب الملحد بتدخلات عشوائية (سحرية) للإله لتغيير هذا النظام البديع ،وإذا افترضنا جدلا أن الكون يسير تحت العشوائية يسارع بإدعائه أن الإله ينبغي أن يكون حكيما ويضع قواعد محكمة ، لهذا لن نجد الملحد إلا منكرا سواء في واقعنا أو في اقتراحاته الخيالية !! وهذا يعود بالأساس لعدم تفريق الملحد بين قدرة الله المطلقة وبين القواعد والأسس التي يسير عليها نظام الكون، أو بالأحرى يريد أن يبرهن على قدرة الله من لال تغيير نظام الكون ليحصل بذلك الإيمان في حين أن قدرته تعالى تتجلى في هذه القوانين الطبيعية ذاتها.
ثم لنفكر في الأمر بنظرة أخرى ، نظرة لفحص عالمنا بأكثر روية وأكثر دقة ، ولنشرع بطرح سؤال تبادر لذهني مدويا خلال قراءتي لكلام داوكنز السابق ... هل النظام البسيط يدفعنا للإيمان بالله أكثر من النظام المعقد؟! هل الجهل بشيء يدفعنا للإيمان بالله أكثر من العلم بأنه أكثر تعقيدا مما كنا نتخيل ؟! الجواب قطعا لا ، وكتبسيط للفكرة نأخذ على سبيل المثال العين ، فأيهما أحق بالإيمان .. الذي يجهل كيفية الإبصار في العين ؟ أم الذي يعلم أن:
-الأشعة الضوئية المنعكسة تسقط من الأجسام على الشبكية في مؤخرة العين.
-تتحول هذه الأشعة إلى إشارات كهربائية بواسطة الخلايا الموجودة في العين.
-تنقل الأعصاب هذه الإشارات الكهربائية إلى نقطة صغيرة جدا موجودة في مؤخرة المخ تسمى مركز الإبصار.
-تتحول هذه الإشارات الكهربائية بعد سلسلة من العمليات إلى صورة يراها هذا المركز.             


فأيهما أحق بالإيمان ؟! الجاهل أو العالم ؟!
أيهما أحق بالإيمان ؟
الذي ينظر إلى الفضاء في مجرد صورة جاهلا ما يخفيه وما يواريه في ظلامه؟ أم الذي يعلم أن:
-الضوء يقطع ستة آلاف مليار ميل في السنة وهذا ما نطلق عليه السنة الضوئية.
-يصل إلينا ضوء القمر في ثانيتين في حين يصل لنا ضوء الشمس في 8 دقائق ، أما أقرب نجم يقرب إلينا بعد الشمس فيحتاج ضوئه إلى 4 سنوات ضوئية أي أنه يبعد عنا 23 مليون مليون ميل !!
-نجم النسر الطائر يبعد عنا 14 سنة ضوئية.
-النسر الواقع يبعد عنا 30 سنة ضوئية.
-السماك الرامح يبعد عنا 50 سنة ضوئية أي 294 مليون مليون ميل !!
-سديم المرأة المسلسلة يبعد عنا ألف سنة ضوئية ومن ورائه سدم أخرى ومجرات بعيدة أخرى تبعد عنا آلاف السنين الضوئية.


فأيهما أحق بالإيمان ؟! الجاهل أم العالم !!!!!!                                           
إن ابراهام لنكولن يستغرب من عدم إيمان الإنسان بعد الإطلاع على هذه الحقائق فيقول :"إني لأعجب ممن يتطلع إلى السماء ويشاهد عظمة الخلق ثم لا يؤمن بالله" فإنظر كيف قرن العلم بالإيمان ، تطلع فاستدلال فإثبات للإيمان.
فالأمر لا يستحق عناء في إثبات وجود العلم صفا لصف مع الإيمان بالله عز وجل ومع إفراده بتوحيد الربوبية والإلوهية ، وقس على هذه الحقائق الساطعة عدة أمثلة أخرى لتتأكد أن أحق الناس بالإيمان هم العلماء لذلك فإن الإسلام دعى للإيمان ودعى الناس أيضا للعلم. وأذكر الآن قول ماركس بلانك : "إن الدين والعلوم الطبيعية يقاتلان معا في معركة واحدة ضد الشك والجحود والخرافة ، ولقد كانت الصيحة الواحدة في هذه الحرب وستكون دائما إلى الله" ويقول الدكتور عبد الودود شلبي :" لا يجوز للإنسان أن يتخلى عن عقله بل لا بد من استخدامه استخداما دقيقا قويا ، والإيمان الذي لا يسبقه العقل يعتبر إيمانا ضعيفا هزيلا ، ويكون عرضة للهجمات الفتاكة والهزيمة الساحقة ... لا بد أن يكون لكل منا الشجاعة التي تجعله قادرا على توضيح الأسباب التي تجعله يؤمن بدين من الأديان وأن يثبت مدى إيمانه بصحة هذا الدين وإخلاصه له بما يؤديه من الأعمال الصالحة" *6*
والله أسأل أن ينفع به ويهدي ، ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها




مع تحيات صفحة ؛ الرد الصارخ على الشبهات 



 - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
1- من كتاب ماركسية القرن العشرين ص147
2- كتاب وهم الإله ص67
3- كتاب وهم الإله ص64
4- كتاب صراع مع الملاحدة حتى العظم ص179
5- كتاب صراع مع الملاحدة حتى العظم ص260
6- كتاب كيف أرى الله ؟ ص47