حوار هادئ مع صديقي العلماني


يشتعل الخلاف بين دعاة تطبيق الشريعة وبين دعاة العلمانية في بلداننا الإسلامية وتمثل هذه القضية إحدى أهم قضايا الفكر العربي المعاصر ذلك أن التفرعات في هذه المسألة لا تعد ولا تحصى والغوص في هذه القضية يحيلنا إلى طرح العديد من الأسئلة المتنوعة تختلف حولها الآراء وتتضارب فيها الأفكار وكثيرا ما يصل الحوار إلى ما لا يحمد عقباه من غلوّ في تخوين الآخر أو تسفيهه وشتمه، لهذا ينبغي الحسم في هذه المسألة حتى تتقارب الأفكار وننظر إليها من كل النواحي لعقد الرأي القيم والأقرب للصواب.

- إذا كانت العلمانية لا تتعارض مع الإسلام، فلم الإختلاف ؟!
يعتبر العلمانيون منهجهم لا يخالف مبادئ الإسلام وذلك يكون تبنّيا لإحدى ثلاثة آراء نوردها في ما يلي :
1- الإسلام لا يحتوي على مبادئ سياسية
2- الإسلام لا يلزم الحاكم فرض مبدأ إسلامي على رعيته
3- الإسلام لا يمكن أن ينظم مجتمعنا في الوقت الراهن حسب مبادئه القديمة !
لا شك أن الاتجاهات الإسلامية السياسية لها خلفياتها ولم تنبع من فراغ ولذلك فينبغي الرجوع إلى أدلتهم المستوحاة من الكتاب والسنة النبوية والرد عليهم من منطلق الشريعة الإسلامية ذاتها فالتوافق في هذه النقطة مهم جدا لتكون نقطة البداية التي ننطلق منها نحو تصحيح المسار ومناقشة الآراء الثلاث المذكورة أعلاه من منظور شرعي.
إن أصحاب القول الأول "الإسلام لا يحتوي على مبادئ سياسية" يواجهون مجموعة من الآيات التي يعجزون عن تفسيرها لحد هذه اللحظة. قال الله: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ). وقال: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وقال: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) وقال: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) وغيرها من الآيات الكثيرة التي تحذرنا من تجاوز ما أمرنا به الله تعالى وتلزمنا بإتباع ما في كتابه من هدي وتبيان للحق. لهذا ينبغي إقرار أن كتاب الله تعالى وسنة نبيه تحتوي على أوامر ينبغي إتباعها والسير على نهجها ولا داعي للتملص منها ونبذها بدعوى أن الإسلام لا يشتمل على أوامر فإن كان ذلك كذلك فلا معنى لإلزام الله تعالى إيانا بإتباع أوامره وهذا ما لا يقبله عاقل. (إن النظام السياسي يحدد شكل الحكم ووسائل ممارسة السلطة، أهادف السلطة وغايتها ومصدرها، السلطات المخولة للحاكم في علاقته بالرعية، وكذلك السلطات المخولة للأجهزة الإدارية عند مباشرتها لاختصاصاتها ومركز الفرد في الدولة ومدى إلتزاماته وحقوقه قِبل الدولة وضمانات تلك الحقوق.) (1). وفي هذه النقاط حدد الإسلام النظام القائم ووضح ما بين ثناياها وإن لم تكن مفصلة في أمور فإن ذلك لتغيّر الآليات والوسائل المستعملة لكن بلا شك فإن الهدف يبقى واحدا والمبادئ الأساسية في الإسلام لا تتغير ولا تتبدل مثال ذلك أن الظلم يبقى مذموما مهما طال الزمن أو قصر والعدل يبقى محمودا على مدار التاريخ أما أساليب تحقيق العدل وأساليب تجاوز الظلم فتختلف بتطور المنظومات المستعملة والأساليب المتّبعة لذلك يقول الإمام القرضاوي في توضيح هذا المعنى واصفا الإسلام بـ:( ـالثبات على الأهداف والغايات،المرونة في الوسائل والأساليب .. الثبات على الأصول والكليات، المرونة في الفروع والجزئيات .. الثبات على القيم الدينية والأخلاقية، المرونة في الشؤون الدنوية والعملية ). وقال العلماء : (الشريعة الإسلامية تفصّل في ما لا يتغير وتُجمل في ما يتغيّر بل قد تسكت عنه تماما.)
أما أصحاب قول "الإسلام لا يلزم الحاكم فرض مبدأ إسلامي على رعيته" فعدة أيات وأحاديث تفنّد دعواهم وتنسف حجتهم، لا ينكر أي شخص متضلّع في الدين أن من أول مهام ولي الأمر هو إلزام رعيته بقوانين يسنّها بالتشاور مع أهل الرأي لتنظيم حياة رعيته وإلزامهم بها وبذلك تكون الدولة دولة مدنية تسير حسب منهج محدد مضبوط، الخارج عليه يعاقب حتى لا يكون كل فرد يتبع ما يحلو له ويعمل حسب ما يبدو له وما يزخرفه له هواه بتجاوز حدوده والتعدّي على الآخرين، فإن كان الواجب على الحاكم أن يلزم رعيته بقانون وضعي يراه صالحا لتنظيم دولته (وهذا ما ينزله منزلة الفرض في الشرع عليه) أوليس من الأجدر والأولى أن يلزمهم بشرع ربهم قبل كل شيء ؟! إن أول مهام ولي الأمر (الحاكم) في الإسلام هو إقامة العدل، فهل يقال أن الرعية ليست مكلفة بذلك؟! لا يقول أحد بهذا وأحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متواتر تدل على هذا ومنها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)، رواه مسلم. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(كلكم راع ومسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية ومسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع ومسؤول عن رعيته)، رواه البخاري، ولاحظ في الحديث تقسيم الأدوار على مختلف فئات المجتمع من رأس السلطة إلى أبسط فئات المجتمع وقسم بينها المسؤولية في المحافظة على الكيان العام للدولة كل في إطاره وكل في ما تحت تصرفه ومتناول قدرته. ولعل أبرز سؤال يراود البعض هنا هو: هل الواجب على الدولة التدخل في فرض عبادة معينة أو نهي الفرد على منكر محدد أو إلزامه باعتقاد ما دون آخر علما أن هذا لا يتجاوز نطاق الفرد ولا يتعدّى إلى مجال الآخرين ؟ حقيقة أعتبر أن الجواب هو بطبيعة الحال لا، لأن ذلك من المحال وهذا يتجاوز قدرة الحاكم أو الدولة ككل فإن الدولة ينبغي أن تتدخل إذا كانت الجناية المقترفة امتدت سمومها للمجتمع وتضرر منها المسلمون فتسارع الدولة لقطع دابر المنكر قبل أن يستشفي وقبل أن يمتدّ أكثر فمبدأ الإسلام هنا هو "إذا عصيتم فاستتروا".
أما القول الثالث "الإسلام لا يمكن أن ينظم مجتمعنا في الوقت الراهن حسب مبادئه القديمة" فأكثر قائليه هم إما ملحدون أو نصارى أو يهود أما أن يكون القائل بأن الإسلام قد ولّى عليه الزمن وعلا القرآن الغبار وأسدل التاريخ ستاره على السنة النبوية فلا أدري كيف يعلن أنه لا يزال على الإسلام ؟! إن كلا من النصارى واليهود وحتى البوذيين يعتقدون أن دياناتهم صالحة لكل زمان ومكان ويا عجبي إذا نطق المسلمون بهذا القول ! وهذا القول نابع من خشية "الرجوع إلى الوراء" و"العودة إلى ثنايا التاريخ". لكن ما الذي أخافهم من دينهم ؟ مما يخشون ؟ لنتناول القضايا التي تطرح على طاولة النقاش.
- لماذا يخافون الإسلام ؟!
 إن أصحاب هذه النظرة يعتقدون أن الإسلام إذا طبق فسيعود بنا إلى عصر الجمل والناقة ونظام القبائل والقتال بالسيوف الرماح (!) وهذه نظرة لا تستحق التفكير ولا الرد عليها، أو أنهم يعتقدون بأن الإسلام جاء لوضع البنادق على رؤوس مخالفينا أو قطف رؤوس معارضينا لفرض معتقدنا عليهم، فإن كان الجهاد لرفع ظلم وقع بنا وأجبرنا عليه فلا يختلف في وجوبه إثنان مع مراعاة القدرة والمصلحة فهذا مبدأ إسلامي أساسي حسب آية (لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا)، ولهذا ينبغي الوضوح في المنهج حسب عقيدة الولاء والبراء وأستغل الفرصة هنا لأذكر بعضا من أقوال الغربيين في الحركات الإسلامية : صحيفة يدعوت أحرنوت الاسرائلية (قد نجحنا بجهودنا وجهود أصدقائنا في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب طوال ثلاثين عاما ويجب أن يبقى الاسلام بعيدا الى الأبد) في سنة 18/03/1978، ذكرت صحيفة القبس الكوتية أن موشان دايان قال أمام وفد من الامريكان المتعاطفين مع اليهود : (عدوي الأول هو الاخوان المسلمين ولن أطمئن على مستقبل اسرائيل إلا إذا تم القضاء عليهم) في 26/01/1989، يقول البروفيسور الباريش المتخصص اليهودي في الشؤون العربية :(إن الاسلام قوة سياسية واجتماعية قادرة على توحيد الجماهير، خاصة في الضفة الغربية، حيث يقوم علماء الدين المسلمون بمهمة توحيد الصفوف ضد اليهود) (3) وبعد ذكر هذه الأقوال يمكن للقارئ أن يراجع هاجس الخوف الذي يراود الكثيرين من الدعم الخارجي للأحزاب السياسية في بلادنا وأيهما يشكّل الخطر الحقيقي أهي الأحزاب الإسلامية أم غيرها وماذا يعني قول الصحيفة الاسرائيلية "قد نجحنا بجهودنا وجهود أصدقائنا !". إن كان يقصد مأتى الخوف هو فرض المعتقد على غيرنا فهذا بلا شك لا يقبله الشرع وبالتالي العقل أيضا، لهم دينهم ولنا ديننا، ولا يقبل الله الإنسان إلا إذا جاءه طواعية لا أن يأتيه مكرها معرضا بقلبه عليه فالنية قلبُ العَمل، وعلى هذا الأساس ليطمئن من اعتقد أن النظام الإسلامي سيفرض على أهل الملل والنحل الأخرى الدين الإسلامي وهذه نظرة قاصرة للشريعة الإسلامية والمعقول أولا وللتاريخ الإسلامي ثانيا والنصوص التي تفرض حسن التعامل مع هؤلاء كثيرة جدّا. ونذكر زبدتها في موقف تاريخي يؤكد تحكيم المسلمين لتلك النصوص وعدم التغاضي عنها موقف عندما فاوض شيخ الإسلام ابن تيمية المغول على أسرى من المدنيين قد أسروهم في هجماتهم على المدن في سوريا، وقد حاولوا تسليم الأسرى المسلمين فقط دون أهل الكتاب والاحتفاظ بهم كعبيد فقال لهم المفاوض: أهل الذمة (يقصد أهل الكتاب) قبل أهل الملّة (يقصد المسلمين) أي أنه يطلب تسليم المسيحيين واليهود قبل المسلمين.  ربما يعتقد البعض الآخر أن الإسلام غايته إقامة الحدود على الخلق بقطع يد السارق –أي سارق دون مراعاة الأحوال!- وجلد الزاني-دون مراعات تيسير الاستعفاف وتقديم سن الزواج في المجتمع ودون مراعاة الشهود الأربع (= الاعتداء على عامة الناس بالتحلل الأخلاقي) وسد أبواب العهر ...إلخ- إن التغلغل داخل ثقافة المجتمع بإعادة إحياء مبادئ الإسلام الحنيف وبنشر التكافل الإجتماعي والحد من البطالة وإعادة إحياء النخوة والشهامة والشعور بالمسؤولية بالتوعية ستساعد بلا شك في الحد من السرقة خاصة إذا تذكرنا فقه عمر ابن الخطاب حين أوقف حد السرقة حين كثرت في عام الجوع عام الرمادة وإذا ذكرنا أيضا أن القضاء ينبغي أن يحدّد نصابا معيّنا هو الذي يقام فيه الحد وذلك حسب أعراف المجتمعات حسب ما يتفق عليه العلماء كذلك بالنسبة للحدود الأخرى فينبغي اتخاذ الخطوات اللازمة لذلك. يقول الدكتور محمد عابد الجابري في نقد هذه الرؤية الضيقة للشريعة الإسلامية :(هناك جانب آخر وهو تطبيق الشريعة الإسلامية لا يعني فقط إقامة الحدود كقطع يد السارق مثلا. إن هناك مبادئ وأحكاما أخرى يجب أن تطبق مثل مبدأ "الشورى" في الحياة السياسية، ومبدأ "كاد الفقر أن يكون كفرا" في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ومبدأ "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" في الحياة الفكرية، ومبدأ الناس كأسنان المشط في مختلف مرافق الحياة، وأعتقد أن تطبيق هذه المبادئ يجب أن يسبق تطبيق بعض الحدود الشرعية، خاصة حد السرقة، لأن انتفاء الأسباب الموضوعية التي تدفع إلى السرقة شرط ضروري لجعل المسؤولية تنصرف إلى الأسباب الذاتية وحدها. ومعلوم أن الحدود ليست غاية في ذاتها وإنما هي وسيلة لردع وزجر النوازع الذاتية الفردية الهدّامة، أي التي تمس مصلحة الجماعة، مصلحة الأمة.) (4).
يعتقد آخرون أن المرأة ستكون مكوّن في المجتمع غير مرغوب فيه بل ومعزول عن العالم تنتقل من ضيق الدار إلى ضيق القبر. باختصار شديد الإسلام لم يفصل المرأة عن الحياة الاجتماعية ولا الاقتصادية ولا الفكرية ولا السياسية بل على مبدأ (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فكذلك إن أجدركم للقيام بمهمة ما أقدركم عليها بغض النظر عن جنسه، لكن ينبغي مراعاة مبادئ الإسلام في الفصل بين الجنسين في فصول الدراسة وفي العمل وأيضا في المواصلات قدر الإمكان، فذلك أولى إن علمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم رغّب النساء في الصفوف الأخيرة من المسجد والرجال في الصفوف الأولى منه وهم في أطهر مكان وحث النساء على السير في جنبات الطريق والرجال في وسطه، مجرد مسائل تنظيمية لا تقيم فصلا بين الجنسين بأتم معنى الكلمة ولكنه يكرس مبدأ مهم في ديننا. ينبغي الإقدام على هذا الفصل ومنع الاختلاط كلما استطعنا ذلك لكن هذا لا يعني أن الاختلاط محرم كلما وقع ذلك فإن هذا أمر لا مفرّ منه والأصل هو غض البصر وليس عدم البصر (كما قال الإمام الغزالي). لماذا تحدثت على قضية الاختلاط هنا ؟ بكل بساطة لأن مدارسنا اليوم صارت مرتعا للخبائث بدل أن تكون مكانا مطهرا تحفّه الملائكة، وكما لا يخفى على أحد فإن البعض يدافع على الاختلاط بل ووجوبه ويعدد مزاياه -زعم- ولعله عقد عليه الولاء والبراء (!) والسبب بسيط وواضح فهم "لا يريدون حرية المرأة، إنما يريدون حرية الوصول للمرأة" كما قال الدكتور عمر عبد الكافي. في نفس الإطار تعالت الأصوات التي تنادي بضرورة إعادة تعدد الزوجات لتونس في ما يرفض آخرون هذا وعدّوه مكسبا من مكاسب المرأة التونسية، وفي نظري فإن بند اتفاق خاص بالزوجين قبل زفافهما يكون بمثابة موافقة للسماح للرجل بالتعدد من عدمه يلتزم به الزوجين بعد زواجهما سيفصل هذه المسألة وتكون الموافقة شأن داخل الأسرة وتعزل هذه القضية عن المجتمع ويراعى من خلالها حرية الاختيار للأشخاص دون الاعتداء على حق المرأة في اختيار شريك حياتها وتوضيح مسار حياتهما قبل زفافهما وعلى كل حال فإن هذه الاشكالية الأخيرة المفتعلة ليست إلا أمرا مباحا في الإسلام يمكن تقنينها حسب المصالح العامة وكما نعلم فهذا أمر مباح وليس فرض كما يروّج البعض والمباح يمكن أن يقنن بلا أدنى شك. هكذا ينبغي أن تقاس المسائل في إطار مبادئ الإسلام وفي نفس الوقت مراعات حقوق المرأة فلا شك أن حقوق المرأة ينبغي أن تحافظ عليها تونس ولا شك أنها حققت تقدما ملحوظا في هذا المجال، أقصد الحقوق، خاصة إذا اطلعنا على بعض القوانين الأخرى في العالم الثالث والتي تهضم أبسط حقوق المرأة، لكن ينبغي أن نجد الحلول من داخل الفكر الإسلامي ذاته لا من خارجه.
إن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ستطبق هذه الأمور بين عشية وضحاها ؟ قد ذكرت من قبل أن أساس بناء الدولة الإسلامية قائم على إعادة مبادئ الإسلام الحقيقية للشعب قبل كل شيء ولا شك أن مبادئ الإسلام هي من صميم ثقافة شعوبنا الإسلامية فلن توجد صعوبة في إحياء قيم التراث فيه فنحن نحتاج إلى إعادة تبيأت ثقافتنا الإسلامية في مجتمعاتنا من جديد، إن الصعوبة تكمن في محاولة تغريبه ومحاولة حمله على اكتساب قيم جديدة من ثقافات أخرى ويندرج دور الدولة بعد ذلك في السعي الحثيث لتحقيق هذه المبادئ وتقنين ما استطاعت الحكومة تغييره دون حمل الشعب على الحق مرة واحدة فإن الظل لا يستقيم والعود أعوج، إن الإصلاح ينبغي أن يكون من قاعدة الهرم (المتمثلة في الشعب) إلى قمة الهرم (السلطة) وهذه الأخيرة هي التي ينبغي أن توجّه الثقافة والإعلام للعمل على مشروعها في الإصلاح بطريقة سلسة وكما أسلفنا القول فإن هذا لن يشكل أي صعوبة لأن التغيير سيكون في استعادت الهوية لا في التغريب خاصة إذا علمنا أنه متطابق مع المقدس بل يسير ضمنه لا ينحرف عنه ولا شك أن الشعب المسلم إذا توفرت له الأدلة من الكتاب والسنة على حكم ما فسيسلّم ويتقيّد به ويتأقلم معه بسرعة. إن الإشكالية لن تكون في إطار ثقافة الشعب، فهو مسلم بطبعه، إنما الإشكالية في إعادة بناء المؤسسات وإعادة تنظيم مجتمعنا وإداراته وفق نظام مستوحى من ديننا الإسلامي وهذا ما يستوجب خطة متكاملة ومشروعا شاملا لإعادة هيكلته ولا شك أن هذا يتطلب وقتا قد يطول. ما ذكرناه سابقا هو ما قاله عمر بن عبد العزيز مخاطبا ابنه: (إني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة). إذا علمنا هذه الأمور فعلينا أن نقطع دابر الإسلاموفوبيا التي تجتاح ديارنا قادمة من الغرب طاعنة في ديننا ومتمادية في تقزيمه والتقليل من شأنه فإذا كان ديننا قائم على جلب المصالح ودرء المفاسد ولم يكن قائما على دولة ثيوقراطية يتحكم فيها رجال الدين حسب أهوائهم زاعمين أنهم على اتصال مباشر بالله، فإن الله تعالى بيّن لنا الحق وترك لهم من الحجج في كتابه ما لنا أيضا، ولم يكن ديننا قائما على الأوتوقراطية ولا الأولغراشية بل على الأحقّية في الحكم ومراقبة المحكوم للحاكم ومحاسبته ان لزم الأمر ذلك (علي رضي الله عنه أمير المؤمنين يقف أمام القاضي وخصمه يهودي ...إلخ) لماذا إذا الخوف من الإسلام؟! لماذا التشدق بما يدعوا إليه الغرب طبقا لإنجيلهم والسير على نهجهم لا النهج الذي سطره لنا الرسول صلى الله عليه وسلم ؟!
في حقيقة الأمر لسنا بحاجة إلى العلمانية، بل نحن بحاجة إلى العقلانية، نحن بحاجة إلى التفكير في مقتضيات عصرنا بآليات زماننا حسب مبادئ إسلامنا. ينبغي القطع مع الانتقائية، سواء كانت الانتقائية من الغرب أو الانتقائية من التراث وينبغي وضع النقاط على الحروف في مشاكل عصرنا والتفكير فيها بكل جدّية لإيجاد الحلول المناسبة لأننا نؤمن أن الله تعالى شرّع لنا ما فيه خير لنا.
 إن العلمانية كما يفسرها محمد عابد الجابري (هي فصل الدولة عن "الكنيسة" وليس الدين، وقضية "فصل الدين عن الدولة" قضية مزيفة في مجتمعاتنا العربي) فقياس الإسلام بالكنيسة أمر غريب فعلا حيث أن الكنيسة في بلادهم كانت عبارة دولة داخل دولة، دولة بنفوذها وسيطرتها على الرأي العام هناك لذلك كان التصدي لها أمرا لا بدّ منه عندهم، ثم ما لبثت الدعوة للعلمانية تنتشر في عالمنا العربي وذلك على يد أساقفة سوريين في المشرق ووجدت هذه الدعوة موطأ قدم مع دعوات الانفصال العربي على الدولة العثمانية بأبواق القوميين العرب، وبعد أن سقطت الخلافة الإسلامية وأخذ زمام الأمر هناك أتاتورك (العلماني) وجدت هذه الدعوة المناخ المناسب بتأطير من الأقليات الدينية في بلداننا وتأثر المغلوب (العرب) بالغالب (الأوربيين). وبهذه الأحداث تمت عملية إجهاض لتجربة علمانية في مجتمعاتنا فلم تنجح النهضة العربية منذ ما يزيد عن قرن ونصف من انطلقاتها في بعض البلدان مثل تونس على يد خير الدين التونسي ومصر على يد الطهطاوي ونجاحها في بلدان أخرى مثل اليابان والصين وكوريا والفيتنام رغم أن العرب كانت لهم السابقة وهذه البلدان المذكورة اقتبست من التجربة العربية. يعود سبب نجاح تلك البلدان في اختيار شعوبهم للايديولوجية التي يريدون فكان اختيار الشعوب يمثل الديمقراطية والايديولوجية تجسد الثقافة في حين أن لا شرط من هذه الشروط توفرت في بلداننا فقد ألزمت هذه الايديولوجية على بلداننا إلزاما وقدمت حكومات ما بعد الإستعمار على شكل مسرحية اعتبرت في كثير من بلداننا امتدادا لوصايا الغرب على بلداننا وكانت بمثابة الاستعمار الثاني ولكن هذه المرة من بني جلدتنا فأول ما حاربوه في بلداننا هو المد الإسلامي ومحاولة بتر يد الصحوة الإسلامية التي كادت في عديد من الأحيان أخذ زمام الأمور. بعد هذه اللمحة التاريخية البسيطة أذكر سياسة العلمانية على مدار التاريخ ونأخذ سياستهم في تونس كعينة لمحاربة هذه الصحوة الإسلامية. يقول بورقيبة :(ما بين القيود التي تكبل العقول والأفكار ما له صبغة تقديس بإعتباره مبرتبطا بالدين) (5). ومن هذا المنطلق بدأ بورقيبة وأعوانه من العلمانيين محاربة رموز الدين في تونس فحاول الاعتداء في عديد المرات على المسلمات في ديننا والمعلوم منه بالضرورة كالصوم والتطاول في عديد من الخطب على شيوخ الزيتونة حتى تم إغلاقها وهي التي كانت أول جامعة في العالم أجمع كما فصل مفتي الجمهورية وبقي المنصب شاغرا لسنتين متتاليتين 61-62 . يقول أحمد مزالي: (بورقيبة كان يريد في برامج التعليم أن نركز على المعاصرة والتكنولوجيا لذلك عندما وضع المسعدي برامج تقضي على التعليم الزيتوني صدف ذلك هوى في نفس بورقيبة الذي يعتبر جامع الزيتونة موطنا للجمود.) (6) .. ومن هنا تعتبر آمال موسى أن (القضاء على التعليم الديني يعدّ مدخلا ضروريا لتتمكن الدولة الحديثة من علمــنت المؤسسة التربوية وصبغ الدراسة بصبغة علمانية غير مقدسة ووضع الأخلاق على أسس نفعية.) (7). إن هذه بعض العينات التي تعبّر عن طريقة العلمانيين في التعامل مع التعليم الديني وسياسة تجفيف المنابع التي لازلنا نعيش شدة وطأتها إلى اليوم. وهذا ليس مثالا منعزلا لا عن بقية العالم العربي ولا عن النظام الموالي لبورقيبة في تونس والذي فتح الزيتونة لمدة وجيزة خلال التسعينات ثم سارع لإغلاقها بعد أن لاحظ الإقبال الكبير عليها مما عدّه خطرا محدقا بسياسته.
إن الفصل بين السياسة والإسلام تعتبر قطيعة كلية مع ماضينا الذي شيدناه وعملية محو لتراثنا ككل وادراجنا ضمن قائمة الشعوب التائهة التي ما زالت تبحث عن أسئلة تعتبر الإجابة عنها أول لبنة لبناء صرح التقدم واللحاق بركب الحضارة، وهويتنا بلا شك إسلامية قبل كل شيء فإذا جردت من مضمونها بقي مصطلحا تذروه الرياح. عوض أن نقدم على هذه الخطوة الخطيرة ينبغي أن نقوم بعملية إصلاح في مؤسساتنا وهيكلتها وإعادة تشييدها من الأساس حسب مبادئ الإسلام الحنيف، وهل فينا من يعارض حكم الإسلام إذا كنا نعلم علم اليقين أن هذا الدين متوافق مع المصالح الحياتية وأنه صالح لكل زمان ومكان بمقاصده العظيمة وأصوله القويمة ؟! لا ينبغي أن نكون دعاة للفصل بين الإسلام والسياسة بل ينبغي أن نكون مجددين ومصلحين موفقين بين السياسة وديننا ولا ينبغي أن نقف منددين ببعض الآراء الفقهية الشاذة التي تنسب للاسلام وهو منها براء بل ينبغي إعادة فهم مقاصد الشريعة الإسلامية على أتم وجوهها التي تعيدنا فعلا لروح الإسلام، ولا شك أن إيماننا يملي علينا أن عزة دنيانا في ديننا، إيمان صدر من العقل قبل القلب.
يقول الإمام القرضاوي : (وبهذا نرى المسلم الذي يعيش تحت سلطان العلمانية يعاني من التناقض بين العقيدة التي يؤمن بها والواقع الذي يفرض عليه، فعقيدته تشرق والواقع يغرب، عقيدته تحرم والعلمانية تبيح، عقيدتها تلزن والعلمانية تعارض،، وهكذا لا تعايش بين الاسلام الحقيقي والعلمانية الحقيقية، فهما كالضرتين، إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، أو ككفتي ميزان لا ترجح إحداهما إلا بمقدار ما تحت الاخرى) (8).

--------------------------

(1) منقول بتصرف من كتاب تحطيم الصنم العلماني للكاتب محمد شاكر الشريف ص47-48

(2)كتاب الإسلام والعلمانية وجها لوجه ص138
(3)كتاب الإسلام والعلمانية وجها لوجه ص199
(4) كتاب وجهة نظر لمحمد عابد الجابري ص70
(5)،(6)،(7)كتاب بورقيبة والمسألة الدينية ص96،ص70،ص71
(8) كتاب الإسلام والعلمانية وجها لوجه ص101