انتكست الفطرة، في جزيرة الإلحاد

في جزيرة نائية بعيدة تقبع وسط المحيط اعتزل ثلة هناك، ما لسبب إلا لأنهم ملّوا قومهم الذين يؤمنون بالله، فقد اعتبوا الإيمان وقود التخلف الذي سرعان ما يشتعل في الأوساط المؤمنة، فقرروا الابتعاد قدر الإمكان والنجاة بحضارتهم وثقافتهم التي داهنها المؤمنون بالحرب وكادوا يقضون على تطروهم الفكري والحضاري.
 هناك .. في تلك الجزيرة المعزولة عن العالم، لا أحد سيتدخل في ما سيعملون ولا في ما يفكرون، جعلوا دستورهم العقل المنفتح وديدنهم التفكير في كل شيء، كل شيء قابل للنقد، كل شيء قابل لإعادة النظر، وإذا ما أرادوا تغيير أمر في الأخلاق أو في الفطرة .. فأهلا وسهلا، لم التعصب ؟! ولم الرجعية ؟! فالعقل سيد الموقف عندهم !! إنهم يؤمنون به إيمانا راسخا حتى كادوا يؤلهوه !!
   مرت سنوات عديدة عليهم وهم هناك، يبحثون ويجتهدون وفي كل مرة يغيرون قانون ويحتكمون لآخر !! لكن لم ؟! لقد ظهرت في هذه الجزيرة حركات تدعوا لاصلاح مزعوم وتدعوا لإعادة النظر في كل ما ورثوه من المؤمنين في بلدتهم السابقة، فظهرت مجموعات تندد بما أسمته "قفص الزوجية" وتدعوا إلى التحرر من هذه القيود التي اعتبرتها بالية قديمة وما هي إلا مجرد عادات وتقاليد، وفي الجانب الآخر جماعة تدعوا إلى ما أسمته المساوات بين المرأة والرجل مدعية أن المجتمع المتخلف ينظر إلى المرأة إذا مارست "حقها" في الدعارة نظرة مخالفة تماما إلى ما قد يكون من الرجل !! وقد نادت بالتحرر من عديد المصطلحات التي وصفتها بالميتة، كالعفة، والطهر، والنقاء وغيرها كثير ... ثم توالت المجموعات الواحدة تلو الأخرى التي تريد نشر ذلك الفكر الواعي الذي قررته عقولهم والتي تندد بالمصطلحات القديمة التي اعتبرتها من صناعة الأوهام، فإذا هم يعتبرون عمل المومس مقبولا وشرعيا، وانتشار المشروبات الكحولية أمرا مستحسنا غير منبوذ، والانتحار أمر شخصي ... وما لبثوا أن دعوا إلى التحرر من كل القيود وكل المصطلحات الأخلاقية التي ورثوها من أسلافهم، مادمت لم تتعدى على غيرك فأنت حر طليق فعش كما بدا لك، وليس من حق أي كان أن ينهاك أو يأمرك بمعروف !! لكن أي معروف وماذا تعني كلمة معروف ؟!! لا يهم .. إنها مصطلحات موروثة من أولئك الأولين!!
بعد أن وضعت قوانين جديدة لم تعهدها الإنسانية، وألقي بمصطلحات قديمة من أمثال الأخلاق والمعروف والمنكر وغيرها ... ونشأت أجيال جديدة ما اعتادت أن ترى الفضيلة بل ولا تميز بينها وبين الرذيلة وإنما حرفت فطرتها وغيرت على حسب مفاهيمهم الجديدة التي ما فتئ الناس عن ترديدها وعن الحديث عنها، فشعار الجزيرة إن الحكم إلا للعقل، وأي عقل !! وماهي نتائج هذه الانحرافات ؟؟ وما هي النتيجة التي جنتها من هذه الطريقة ؟؟ والأهم، هل ينبغي أن يقودنا العقل لهذا ؟؟
كانت نتيجة هذه الانحرافات الأخلاقية جد خطيرة، فقد كثر أولاد الشوارع نتيجة للإهمال الأسري وكثرت دور العجزة الذين تخلّى عليهم أبنائهم، بل تسارعت نسبة العلاقات الغير شرعية بنسبة كبيرة جدا حتى طفحت وصارت الأصل !! ورغم ما يحمل هذا العدد من نبإ بتدهور خطير في المجتمع إلا أن المجموعات قامت محتفلة بالإنجاز الذي سمته انتصارا على التخلف، وما كانت النتيجة إلا بروز العديد من أصحاب الاحتياجات الاجتماعية المختلفة فكثر في تلك الأوساط الانتحار وتقطعت العلاقات الأسرية، فلا أبوية تذكر ولا أمومة ولا أخوة فكل يعمل على شاكلته وكل يعمل ليظفر بأكبر قدر من اللذة الممكنة في هذه الحياة المحدودة القصيرة، إذا متّ، فلا أحد يبكيك، فإنما أنت لاشيء قد أتيت من لا شيء لتذهب للاشيء !! فعلاما البكاء ؟! وتسببت هذه الفلسفة الإلحادية في الاعتياد على عديد الأخبار من أمثال، قتل 20 هناك، ونشبت عمليات إرهابية بين أولئك، سقط خلالها مجموعة من الضحايا، توفي فلان جارنا ليلة أمس .. لكن ماهذه الأخبار ومالهم ولها ؟! إن أولئك لا شيء عندهم فقد انقضت لذتهم ليفسحوا المجال لآخرين !!  .. إنها فلسفة ملحد .. لا تعجب.

في ضل هذا التأزم الحاد و الوضع المزري والفهم العقيم لمفهوم الإنسانية والتي طمست فيها كل معالم الحق ونبذت فيها الفضيلة وسفك فيها الحياء ليعم مفهوم الحرية المعوجة والتحرر من الإنسانية للأخذ بواقع الغاب .. الحيوانية المنتنة .. ظهر مجموعة من دعاة الإصلاح .. الإصلاح بمحاولة وضع قوانين تحد من تلك الشهوات والنزوات التي ألبست ثوب الحريات، عدة قوانين وضعت وعدة قيود تكبل تلك الأيادي التي تعدت على الفضيلة شاهرة سيف الرذيلة !! ولكن هيهات أن ينتصر الباطل على الحق في الجولة الأخيرة فإنما هي مجرد جولات وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، تلك سنة الله في الأرض التي أنكرها هؤلاء. لكن، بعد وضع تلك القوانين والتذرع بشتى أنواع الخزي التي لحق بهم في ظل غيابها، حاول الناس –ممن انتكست فطرتهم- تبديلها وتحريفها، وكانت معركة مشتعلة بين من يدعوا إلى الحرية وبين من يدعوا إلى النظر في نتائجها، فقد كان نظر الفريق الأول إلى شهواتهم ولا غيرها، فقد اعتبروها حياة فانية لا نجني منها سوى لذة وقتية ثم ننتهي !! فلم الخوف إذا ؟! لكن الفريق الثاني كان فريق واعي، أطّر نتائج الواقع الملموس ووضع في حسابه ما قد يكون فنظر من زاوية أوسع إلى أفق أبعد، فإن الواقع يفرض تلك الأمور فإنما هم يستنتجون من الواقع وما هم في برج عاجي !! وأخيرا، وضعت القوانين التي حدّت من حرية الشهوات الفانية والتي فرضت عليهم التعامل مع الحياة بمسؤولية وحكمة. فهل نجحوا في السيطرة على الوضع ؟؟ وهل استطاعت القوانين فرض الأخلاق على الناس ؟؟
نظر أحد هؤلاء المفكرين للأوضاع من حوله بعد الاصلاحات المزعومة وبعد القوانين المسنونة للسيطرة، فإذا به يجد الأوضاع قد تغيرت بصفة ضئيلة جدا، وفي ما كان التغيير ؟! إن تلك القوانين لم تضف إلا غطاءا شفافا على وضع مبك مخز !! هذه القوانين غيرت وضع الناس، فقد كانوا يعملون جهرا ويتكلمون في واضح النهار، فصاروا يعملون سرا مستخفين وراء أستار الظلام، حيث تحاك المؤامرات وتستباح المحضورات وتضرب القوانين بعرض الحائط، ولا عزاء فإنه الحاضر الغائب !! فما الفرق بين الوضع هنا والوضع في غياب القوانين ؟! هذه الأفكار المتلاطمة والمصائب المتوالية دفعت لصرخة مدوية زلزلت كيان المفكر محركة فطرته التي ردمت منذ زمن بأوحال الإلحاد فشتان بين الفرس والحمار وشتان بين مشرّق ومغرّب .. قد قال في نفسه :
"لا أحد يكترث للقوانين ولا أحد يعمل تحت القيود إلا إذا كانت عليه رقابة شديدة من أصحاب القانون، ففكر البشر لا يغيره القانون وضعي، فإنه إذا وضع في كفة الميزان مع دنيا مزخرفة بشهوات شلت أركان عقل الإنسان ودفعته للتفضيل بين سراب وبين واقع أو إن شئت قل بين الأخلاق التي لا مفهوم لها عند الناس وبين اللذات التي يمكن اعتبارها أمر مادي محسوس !! فإن الأخلاق تختلف من شخص لآخر ولربما ما كان عند فلان معروفا كان عند زيد منكرا !! فأنى لنا أن نجد سبيلا لتحديد مفهوم الأخلاق وكيف لنا أن نحدد المعروف من المنكر بنظرة شاملة ينزوي الكل تحت ظلها ولا يخالفها أحد من الناس !! أهو القانون ؟! ..."
أطرق الرجل مفكرا في حلّ يخرج الجزيرة النائية من أزمة مفهوم الأخلاق، وضع الأدلة، نظر وفكّر، وحاول أن يستنتج حلا ملائما لقوانين أكثر صرامة .. لكن دون جدوى، فقد أعاد النظر إلى ما بين يديه من أدلة ثم صرخ قائلا :
" هب أن تلك الرقابة (أعني القانون) قد سلطت عليهم وأيديهم كبلت والأغلال قد وضعت !! إن مجرد وعد منفذ القانون برشوة ستجعل الأمر ينتقل من اللاقانونية إلى عدم الاكتراث واللامبالات فما بالك إذا انعدمت الرقابة أساسا !! وقد علمت أن الإنسان سيفضل تلك الوعود بكل شغف !! إنه حب الدنيا !! والميزان الذي رفعت من كفته معالم الروحانية ميزان بلا شك مائل إلى كفة هذه الحياة الدنيا !!
إن الأخلاق لا يضبطها القانون فهو أمر فطر عليه الإنسان ويكتسبه من منظور روحي ولا تكتسب الأخلاق بالقانون، إن القانون له أثر في الحد لكنه غير كفيل بإصلاح أخلاق فرد ما وسيكون إثر أول غياب لهذا القانون أثر ماحق لكل المميزات التي وضعت. إن القانون لا يتبع الإنسان في منزله ليتدخل في تعامله مع عائلته، ولا يتبعه إلى مكتبه في الشغل ليكون رجل صالحا ولا يدلي بيده لرشوة ولا ولا ولا ..." ((وكلنا يعلم ما حدث في مونتريال إثر إضراب الشرطة سنة 1969 لبضع ساعات فقط من نهار، حيث لجأت المدينة للاستعانة بالجيش لإعادة السيطرة على الأوضاع !! هذا المثال فقط في أمور الجنايات، أما في الأخلاقيات فمحال أن يبسط القانون سيطرة على الوضع (يوجد 100 مليون من أطفال الشوارع في العالم، لا يمكن للقانون أن يفرض بر الوالدين،).))

حاول الرجل أن يقنع قومه بأهمية الإلتزام بالأخلاق ولكن دون جدوى، ففي كل مرة يختلف معهم حول جزئية ولو كانت بسيطة، فقد كانت نتيجة الانحلال الأخلاقي جد مخزية حيث انتكست الفطرة وعربدت شياطين الإنس فعافت في الأرض فسادا فصار لكل شخص منهم مفهوم للأخلاق وكل منهم يختلف عن أخيه في أبسط الجزئيات، سميت الأشياء بغير مسمياتها فالخمر مشروبات روحية والزنى حرية وظلم الناس وأكل أموالهم خبرة وربح وهكذا ...
"غريب حالنا في هذه الحياة .. نأتي .. لا ندري من أين .. لنعيش فترة قصيرة من زمان .. يتخللها ظلم أو عدل، مساوات أو جور، أخلاق تتبع أو حدود تنتهك، حسنات تحسب لنا أو سيئات تعد علينا .. نعمر ليرث غيرنا ونجمع ليتمتع خلفاؤنا من بعدنا .. ثم، إلى أين ؟! فهل تنتهي قصة الإنسانية للاشيء ؟! وهل وجدنا في الدنيا لننتهي ؟! .. فعلا غريب أمرنا !! .. لا أشك أن عقولنا لم تبلغ حقيقة مطلقة جهلناها لزمن بعيد .. الوجود الإلهي الذي يفرض العدل التام على كل مخلوقاته .. لا طغيان حينها ولا ظلم ولكنه عدل مطلق .. إياكم أن تغيب عنكم هذه الحقيقة " .. أطلق المفكر هذه الرصاصات بعد أن ضاق ذرعا بقومه وبعد أن سخط من طغيانهم وجورهم، وبعد أن ملّ حياة اللامبالات التي يعيشها أولئك القوم في جزيرتهم.

تنويه :
في الختام، أود أن أذكر أن هذه القصة اختلقتها للعبرة لكن الأحداث التي فيها فرضها علينا الواقع وأخذ الأخلاق من جانب "إلحادي" لا يقوم على دين أمر يؤدّي إلى طوام، حياة بائسة ظهرت فجأة وانتهت فجأة !! لا شك أن هذه المعادلة تؤدّي إلى عدم الاكتراث واللامبالات !!
يقول  المفكر الإسلامي (وحيد الدين خان) في كتابه "الإسلام يتحدى":
"وهل قامت مسرحية العالم كلها لتنتهي إلى كارثة أليمة؟ إن فطرتنا تقول: لا .. فدواعي العدالة والإنصاف في الضمير الإنساني تقتضي عدم حدوث هذا الإمكان ، لا بد من يوم يميز بين الحق والباطل ، ولا بد للظالم والمظلوم أن يجنيا ثمارهما ، وهذا مطلب لا يمكن إقصاؤه من مقومات التاريخ ، كما لا يمكن إبعاده عن فطرة الإنسان .
إن هذا الفراغ الشاسع الذي يفصل ما بين الواقع والفطرة يقتضي ما يشغله . إن المسافة الهائلة بين ما يحدث وبين ما ينبغي أن يحدث تدل على أن مسرحاً آخر قد أعدَّ للحياة ، وأنه لا بدَّ من ظهوره ، فهذا الفراغ العظيم يدعو إلى تكميل الحياة ...
إذا لم تكن هناك قيامة فمن ذا الذي سوف يكسر رؤوس هؤلاء الطواغيت الطغاة؟".