نريد تفسيرا يا أهل الإلحاد 5

منهج لا إلاه إلا الله في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن مجرد كلمة ولا مجرد لفظ فقط يقوله دون مراعاة لما فيه من معاني وما وراءه من واجبات، قد سار الرسول صلى الله عليه وسلم بثبات على هذا المنهج الذي يفرض على أتباعه العبادة الخالصة لله تعالى وحده وموالات المسلمين والبراءة من المشركين وأفعالهم وعدم طلب مودتهم والتقرب إليهم بأي شكل من الأشكال وأي نوع من الأفعال فإن القضية قضية عقيدة يحيى عليها الفرد ويموت. يمكن أن تكون العقيدة في نظر بعض الناس شيء هين لا يستحق الحياة من أجله وهؤلاء هم المنافقون الذي حذرنا الله تعالى منهم وقال فيهم : "مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا". إن سبب نفاقهم يتمثل في هوان العقيدة في قلوبهم لذلك لا يكترث أحدهم إذا باع دينه ليفوز بعرض من الدنيا قليل، لا تستغرب إذا تنكر المنافق لدينه فإن هدفه يتمثل في الفوز بالحياة لذلك لا يحمل في قلبه هدفا ساميا ولا يريد خوض غمار تنازلات أو حتى الدخول في مغامرة مجهولة النتائج فهي بالنسبة له كفتح باب مغلق لحجرة مظلمة لا يعرف ما ورائه. السؤال هو متى يظهر المنافق وجهه الحقيقي ؟ .. لا أشك أن هذا الصنف من الناس يبدل جلده إذا تقلبت الأحوال فعندها تظهر فعلا خواطر الرجال، لا أطيل كثيرا في هذا الأمر لكن تأمل في قوله تعالى : "الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا" وقوله :"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا  وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا" .. "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ".
بعد عرض هذا التمهيد البسيط حول المنافقين نعود لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لنتأمل في بعض من مواقفه. في الأربعين من عمره صلى الله عليه وسلم نزل عليه الوحي وجهر بدعوته إلى الدين الحنيف وأنذر قومه صلى الله عليه وسلم من عواقب الشرك ودعا إلى إخلاص العبادة لله تعالى والمتأمل في دعوته صلى الله عليه وسلم يلتمس السير على نهج واضح وصراط مستقيم، لا نفاق فيه، لم يطرأ عليه تغيير ولا تبديل من أول يوم في دعوته إلى نزول "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا"، إنه منهج لا إلاه إلا الله تلك العقيدة التي شَرَعَ محمد صلى الله عليه وسلم في نشرها وحيدا حيث أنها كانت حينها غريبة على قومه فسارعوا بقولهم:" إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ". إن منافقا كمسيلمة الكذاب يستصعب البناء من أوّله فيحاول مكرا ربط الصلة بالآخرين وكسب مودتهم على حساب عقيدته، لكن أي عقيدة ؟! لا عقيدة له ولا دين له سوى النفاق البيّن وكل متتبع لسيرة أمثاله يبين له التوائهم وخديعتهم. لكن انظر إلى دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حين يجمع قومه ويناديهم ثم يعلن انه نذير بين يدي عذاب شديد ويقولها مدوية إنكم على ضلال مبين وعلى شفى جرف هار، لم يطلب مودتهم ولم يسجد لأصنامهم ولم يمدحها أبدا بل كسرها ليذكرهم أنها من حجارة وأن عملهم وعبادتهم شكر وضلال. روى الإمام أحمد وأبو يعلى والبزار بإسناد حسن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (انطلقت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم حتى أتينا الكعبة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اجلس وصعد على منكبي فذهبت لأنهض به فرأى مني ضعفاً فنزل وجلس لي نبي الله صلى الله عليه وسلم وقال: اصعد على منكبي. قال فصعدت على منكبيه، قال فنهض بي قال فإنه يخيل إلي أني لو شئت لنلت أفق السماء حتى صعدت على البيت وعليه تمثال صفر أو نحاس فجعلت أزاوله عن يمينه وشماله وبين يديه ومن خلفه، حتى إذا استمكنت منه قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقذف به فقذفت به فتكسر كما تتكسر القوارير، ثم نزلت فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نستبق حتى توارينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس). ولا يتوانى رسول الله صلى الله عليه وسلم في إعلان كفر اليهود والنصارى والمجوس ويعلن أيضا عن ضلالهم ومغالاتهم في دينهم ويبين تهافت عقيدتهم، ألا ترى ما في هذا التصريح من عظيم الحجة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم ؟! إنه لو كان غير صادق في نبوته لوالاهم لكسب "حلفاء" مؤيدين !! لكن تجد مبدأ لا إلاه إلا الله يتجسد في هذه الدعوة الصادقة والتي كان شعارها لا نفاق على حساب العقيدة، فإن الرجل الذي يصدع في وجوه اليهود والنصارى والمشركين والمجوس وكل المعتقدات الضالة بقوله تعالى :"أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ" هو نبي صادق بلا أدنى شك. وهو الذي يتلوا عليهم :" قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ" فتأمل في شموخه ووقوفه على قدم الإخلاص لا يميل ولا يحيد عن الحق قدر أنملة، يقول لهم بكل ثقة وبكل عزم :" قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ". وتجد التذكير من الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر العظيم فيذكره بنعمته عليه في التثبيت من الميل، مجرد الميل والركون ولو قليلا للكفار فيقول تعالى:" وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا  وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا" كما يذكره الله تعالى بعدم قبوله للعبادة إذا خالطها الشرك فيقول:" وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ " .. هل تعتقد بعد هذا أن القرآن من تأليف محمد ؟؟ بئس الإعتقاد إن كنت لم تجد تلك النفحة الإلهية في القرآن الكريم وبئس التفكير ان كنت لم تعرف بعد صدق النبي صلى الله عليه وسلم، تأمل في آيات القرآن وهي تذكر الرسول بنعم الله تعالى وتوجهه وتقيده بأعمال وتنهاه عن أخرى وتفرض عليه عملا وتأمره بآخر وتضع له حدودا وتخالفه حينا فترشده للصواب ثم تواسيه تارة أخرى، ألا ترى أن الرسول صلى الله عليه وسلم ماهو إلا عبد الله الذي يطبق ما يتلقاه من الله العلي القدير في آيات القرآن التي تتنزل عليه ؟! إنه وحي الله عز وجل، فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ.   
 كلما فكرت في ثبات الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته أزداد يقينا في صدق نبوته وصدق رسالته، تحمل المسلمون حينها معانات صعبة وتكبدوا مشاقا جسام وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يسعى لتذكيرهم بالثبات على دين الله تعالى وقد حسب المشركون أنهم سيثنون عزيمته على تحقيق مبتغاه وإكماله فسعوا إلى إيقاف دعوته بشتى الطرق بعثوا للنبي صلى الله عليه وسلم الرجال ومنهم عمّه الذي أجابه الرسول بقاله:" والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بُعثت به، من أن يشعل أحد من هذه الشمس شعلة من نار" وبعد فشل هذه المحاولات علم مشركوا قريش أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يدع هذا الأمر مهما حدث فحاولوا أن يقنعوه بالكفّ عن تسفيه حجارتهم ونعتهم بالضلال والخسران لكن حتى هذه المحاولة باءت بالفشل، إذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرضى أن يلتقي الحق مع الباطل في نصف الطريق فالحق واحد لا يتعدد، فكان من جرّاء هذا أن ترك القرشيون طاولة الحوار ليرفعوا السيف على أعناق المسلمين ويلهبوا ظهورهم بالسوط في صحراء محرقة، فيهلع الصحابة لنبيهم مستنجدين من العذاب الأليم الذي حل بهم، فهل تظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيترك دعوته أو ينثني عن الحق الذي بين يديه ؟! كلا .. بل إنه يقول للصحابة داعيا إياهم للثبات على دين الله :" قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصدّه ذلك عن دينه، والله ليتمن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" صبر ما بعده صبر وإيمان شديد بصدق وعد الله تعالى:" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ". لقد اقتبس الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الصفات من المنهج الرباني لدين الإسلام، منهج لا إله إلا الله، فلا موالاة لأحد على حساب كلمة التوحيد والإخلاص لله جل في علاه.


هذا المنهج الرباني اتبعه كافة الرسل عليهم الصلاة والسلام، فهذا نوح عليه الصلاة والسلام يقوم وحيدا في قومه ينذرهم ويذكرهم ثم يصدع فيهم لا يخشاهم ولا يخافهم قائلا :" يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ " وقد سار على الدرب من بعده نبي الله هود الذي قال: "إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ" ثم تبعهم من بعدهم من الرسل رافعين راية التوحيد متضرعين لله تعالى بالنصر على قومهم الذين رفعوا في وجوههم السيوف في حين لجئ الرسل عليهم الصلاة والسلام إلى الله عز وجل، علموا أن قومهم سينصبوا لهم العداء ويواجهوهم بأقصى أنواع العذاب لكنهم حين نظروا إلى منهجهم العظيم تصاغرت أمامهم العقبات حتى اندثرت فتجد أحدهم راضيا بقضاء الله شاكرا له رغم ما سلط عليه من قومه من شديد العذاب فكل ذلك هان عليهم حين علموا أن الدنيا مطية للآخرة وحين ادركوا أنهم على الحق وأن الله تعالى لا يخلف وعده:"إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ". يقول السيد قطب رحمه الله تعالى:( التحدي الصريح المثير، الذي لا يقوله القائل إلا وهو مالىء يديه من قوته، واثق كل الوثوق من عدته، حتى ليُغري خصومه بنفسه، ويحرضهم بمثيرات القول على أن يهاجموه، فماذا كان وراء نوح من القوة والعدة؟...). وهؤلاء الانبياء الذين أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم باتباعهم فقال:" فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ " فانظر إلى ذلك الثبات والثقة والشجاعة، لكن في سبيل أي شيء ؟ هل هي تضحية في سبيل ملك ؟ أم تضحية لدنيا ؟ أم ... ؟ إنها تضحية في سبيل كلمة مثلت منهج حياتهم، في سبيل إخلاص العبادة لله تعالى وإعلاء كلمة لا إله إلا الله .. ومحال أن يضحي أي شخص لـلاشيء فإننا نلتمس من وراء ذلك عظمة ما يدعوننا إليه وعظمة العقيدة التي كرسوا حياتهم من اجلها لأن الرجل الذي يلج باب التضحيات أمام قوم كابروا وطغوا وظلموا وكان القتل بالنسبة إليهم أمر يسير أهون عليهم من جناح بعوضة، الرجل الذي يشهر الحق في وجه من شهر السيف، الرجل الذي يقول " لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى" .. "وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجْرِىَ إِلا عَلَى اللهِ" هو رجل بلا ريب يضحي لخطب جلل وأمر عظيم. يقول السيد قطب رحمه الله:(إنها انتفاضة التبرّؤ من القوم وقد كان منهم وكان أخاهم وانتفاضة الخوف من البقاء فيهم وقد اتخذوا غير طريق الله طريقاً.. وانتفاضة المفاصلة بين حزبين لا يلتقيان.. وهو يشهد الله ربه على براءته من قومه الضالين وانعزاله عنهم وانفصاله منهم. ويشهدهم هم أنفسهم على هذه البراءة منهم في وجوههم، كي لا تبقى في أنفسهم شبهة من نفوره وخوفه أن يكون منهم! وإن الإنسان ليدهش لرجل يواجه هؤلاء القوم الواثقين بآلهتهم المفتراة هذه الثقة، فيسفّه عقيدتهم ويقرعهم عليها، ثم يهيج ضراوتهم بالتحدي، لا يطلب مهلة ليستعد استعدادهم، ولا يدعهم يتريّثون فيفثأ غضبهم. إن أصحاب الدعوة إلى الله في كل مكان وزمان بحاجة إلى أن يقفوا طويلاً أمام هذا (الموقف) الباهر.. رجل واحد، لم يؤمن معه إلا القليل، يواجه أعتى أهل الأرض وأغنى أهل الأرض وأكثر أهل الأرض حضارة مادية في زمانهم.. فهم العتاة الجبارون الذين يبطشون بلا رحمة، والذين أبطرتهم النعمة، والذين يقيمون المصانع يرجون من ورائها الامتداد والخلود... إنه الإيمان والثقة والاطمئنان.. الإيمان بالله، والثقة بوعده، والاطمئنان إلى نصره.. {إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم} [هود: 56].. وهؤلاء الغلاظ الأشداء من قومه إن هم إلا دواب من تلك الدواب التي يأخذ ربه بناصيتها ويقهرها بقوته قهراً.. فما خوفه من هذه الدواب وما احتفاله بها؟ وهي لا تسلط عليه إن سلطت إلا بإذن ربه؟ وما بقاؤه فيها وقد اختلف طريقها عن طريقه؟).




   هكذا كانت دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام وهكذا كانت ثقتهم في الله تعالى فما استكانوا وما توانوا في إعلان برائتهم من آلهة المشركين ومن أعمالهم الشركية دون أن يتنازلوا على كلمة ولا على حرف لكسب ودهم وتطييب خاطرهم بل هو الوضوح التام في الدعوة وفي سبيل منهج دعا إليه رسول الله نوح ودعا إليه الرسل من بعده حتى الرسول الخاتم عليهم الصلاة والسلام.