الغيب في الإسلام والفكر الإلحادي

يعتبر الاتفاق على المفاهيم وضبط المصطلحات في الحوار عوامل مهمة في توفير الدعامة اللازمة لحوار بنّاء هادف فهي بمثابة المسألة المحورية له حيث أن مقامها في يسبق إيراد الحجج أو دحضها وإلا فالحوار دونها يتردّى ليكون مجرد إضاعة وقت وكثيرا ما يخرج الحوار عن نطاقه إما بأن يكون كل شخص يعالج مسألة مختلفة وإما أن يكون الإختلاف إختلاف إصطلاحي على مستوى التعبير ويبقى الاتفاق كامن في لب المسألة. إن أهمية الاتفاق على المفاهيم ذات أهمية عظيمة تكمن في سبقها لجميع النقاط المهمة الأخرى للحوار والعوامل الرئيسية لإنجاحه، قبل التّسلّح بالحجج و البراهين.
لهذا فإن سبيل  إنجاح الحوار هو خلق أرضية توافق حتى تتّضح المفاهيم و تتحدّد نقاط وحدود الخلاف و التوافق و يتجنّب بذلك كل نوع من أنواع السفسطة ولا يصل أطرافه إلى طريق مسدود أو نقطة اللاعودة.
ومن أسباب عدم توفر الأرضية الملائمة للحوار البنّاء بين المؤمنين والملحدين هو أن المؤمن يصدق بأمور غيبية هي في نظر الملحد غير معقولة ولا يمكن إثباتها فالملحد مادي لا يؤمن إلا بما يراه وما هو محسوس.
فهل رفضهم للأمور الغيبية مبني على أساس منطقي متين ؟ وهل أن العلم الحديث يدعم وجهة نظرهم ؟
إن الأمور الغيبية التي لا يمكننا نفيها في ديننا مبنية بالأساس على تصديقنا بأمور أخرى قبلها فإذا نُقضت كذبناها فهي سلسلة طويلة بجملة من الحلقات المترابطة ولا يمكننا الفصل بينها فتصدقينا بالإسراء والمعراج مثلا الذي يخوض فيه المبطلون هو في الحقيقة نتيجة لتصديقنا بصحة القرآن وصحة الأحاديث الواردة فيه وهذا أيضا هو نتيجة لتصديقنا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فالمعجزة هي الأمر الذي خرق العادات المعروفة والقواعد المتداولة لذلك سميت معجزة وكل ما يندرج ضمن هذه الأمور الغيبية من مثل الإيمان بالملائكة والجن واليوم الآخر والقضاء والقدر هو نتيجة لتصديقنا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا غرو في ذلك فلا يسلم الرجل حتى يصدق رسوله في ما يقوله وإلا لكان مكذبا له ضالا عن هديه ومن المحال أن يصدق نبي مرسل لا ينطق عن الهوى في قول ويكذب في آخر وإلا لكان الأمر هرطقة غريبة لا يقبلها المجنون فضلا عن العاقل، قال الله: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
إذا الإيمان بالغيب من الضرورات في ديننا وهي أول ما ذكر من سورة البقرة في صفة المتقين، قال الله : الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . وغيرها من الآيات التي تؤكد هذا المعنى، فمحاولة الفصل بين التصديق بالغيب ومعتقد المسلم عبث ما له طائل.
كنت أقرأ كتابا لأحد المفكرين صباح هذا اليوم ووجدت في الكتاب العديد من الاستشهاد التي ينسبها الكاتب لأصحابها وفي أحيان أخرى يتكلم عن موقف عايشه وطور آخر يتكلم عن حادث سمع عنه ... فتساءلت إن كان بإمكان أحدنا أن يتثبت من كل ما يسمعه فوجدت أن الأمر يتعدى قدراتنا بكثير ! فأغلب الأحداث التي نتداولها بيننا هي بالأساس لا تصل لدرجة اليقين المطلق بل هي أقل درجة من ذلك ولعلها في درجة الخبر الأقرب للصدق منها إلى الكذب، بطبيعة الحال لا يمكننا أن نتأكد صدقه من عدمه إلا إذا كنا على معرفة وثيقة بالكاتب. نعيش في واقع مماثل لما يكذب به الملحد لأنه أشبه بتلك السلسة التي تحدثنا عنها فهي قائمة على مجموعة من التخمينات التي تدفعنا للاعتقاد بصدق ذلك الكاتب الذي يخبرنا عن حادث صار له شخصيا أو يخبرنا عما قرأ في ذلك الكتاب وذاك، ومن المستحيل .. نعم، من المستحيل أن تتأكد من صحة كل ما يستشهد به فلن تصل لكل الكتب التي وجدها وكل ما توفر له من مخطوطات ووثائق ... إلخ. علاقاتنا في الحياة مبنية على مثل هذه الأمور في كل قضايانا، حديث مع أصدقائك، الأخبار في التلفاز، الصحف اليومية، المجلات، الكتب، الانترنت، كل وسائل الإعلام وتبادل المعلومات... إننا إذا صادفنا رجلا يزعم أن باريس عاصمة فرنسا هي في الحقيقة مجرد خيال ووهم وغير موجودة فلا نستغرب أن تتصاعد ضحكات مستمعيه ولعله نعت بالجنون رغم الاحتمال الغالب أن كل أولئك المستمعين الساخرين لم يزوروا في حياتهم باريس ولم يطئوها ويروها رأي العيان ولكن اعتقادهم الجازم في وجودها مبني على تصديق هذا الخبر المتواتر بين الناس وتصديقهم لوسائل الإعلام والناس الذين زاروا باريس وأخبروا عنها فصارت حقيقة مطلقة في نظرهم. الغريب عند الملاحدة أنهم ينكرون هذه الأمور عندنا رغم أنهم في قرارة أنفسهم يؤمنون بها ويستعملون هذا الفكر حتى صار أمرا مسلما به، فهذه النظرة الازدواجية تعتبر خطأ منهجي كبير في المحاججة عندهم ولا يمكن بأي حال من الأحوال تكذيب ما ورد من خبر عن أحد الكتّاب إلا بأحد الأمرين : فإما أن يكون الكاتب عرف بكذبه وتدليسه فلا يؤخذ منه وهذا ما نعبر عنه بمصداقية الكاتب وإما أن نستنتج من القصة المروية كذب الكاتب مثل أن يدعي أنه سكن في "جزيرة" سويسرا ! فواضح أن الخبر عبارة عن كذبة لا سبيل لتصديقه فيها. وبهذا المنهج لا يمكننا إنكار ما عندنا من أمور غيبية لسببين اثنين : الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكذب قط ولا يمكن بحال من الأحوال استنتاج هذا الأمر وإلا لما كنا مسلمين وقد فصلنا في المسألة في المقالات السابقة، من ناحية أخرى الأمور الغيبية لا تخضع للقوانين الفيزيائية المعروفة لذلك لا يمكننا إخضاعها لتجربة في المختبرات أو محاولة دحضها باستعمال الآلات. يقول الدكتور المديني : (ويظل حال التوافق بين الإسلام والعلم على المنهج الاستدلالي في مسيرة البحث عما في عالم الغيب من حقائق ، حتى تنقطع الوسائل الاستدلالية ، عندئذٍ يقول العلم : لقد انتهت رسائلي ، ولكني لا أمانع احتمال وجود وسائل أخرى قد يأتي عن طريقها معارف وحقائق داخلة في عالم الغيب ، وقد عجزت وسائلي الحسية والاستدلالية عن إدراكها ، والحكم عليها بإثبات أو نفي . وهنا يأتي الدين فيقدم ماعني بالإرشاد إليه والتعريف به . مما هو داخل في عالم الغيب ، ولا تملك الوسائل الحسية والاستدلالية إدراكه ولا الحكم عليه بإثبات أو نفي ، ولا يملك العلم الإنساني هنا إلا أن يذعن للدين ، أو يقول : لا أدري ، لكني علمت أن ما جاء به الدين مما علمته بوسائلي قد كان حقا)اهـ (1). إن  الغريب في الفكر الإلحادي أنه يمكن أن يتمادى من إنكار الأمور الغيبية المحضة لانكار البديهيات فلا تستغرب إذا وصل ببعضهم الشك في إنكار حقيقة تاريخية منتشرة وعدم تفريقه بين ماهو خيالي وبين ماهو حقيقة حتى أن بعضهم يشك في وجود النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولا تستطيع إزاء هذا الموقف إلا أن تلزم الصمت وتذرهم في طغيانهم يعمهون.
 أما في المجال العلمي فإن الاستدلال بأمور لم تتجلى حقيقتها ولم تبرز معالمها ولم تتوضح خفاياها أمر جدُّ منطقي بين العلماء من خلال ملاحظة نتائجها فالجهل بالشيء لا يعني إستحالة وجوده، ويندرج ضمن هذا قانون الجاذبية والطاقة المظلمة والالكترونات ... إلخ. يوضح هذه الفكرة قول الدكتور الميداني في كتابه:
( يضاف إلى ذلك أن العلماء الماديين من بعد كل دراساتهم ومشاهداتهم وملاحظاتهم المادية يحاولون تفسير ما شاهدوه من ظواهر بنظريات استنتاجية ، يقررون فيها حقائق غير مرئية وغير مشاهدة ، وهي بالنسبة إليهم وبالنسبة إلى أدواتهم ما زالت أموراً غيبية ، ومع ذلك فإنهم يضطرون إلى إقرارها والتسليم بها ، ويجعلونها قوانين ثابتة يقولون عنها : إنها قوانين طبيعية.
ومن أمثلة ذلك قانون الجاذبية ، إنه قانون غدا من الحقائق العلمية الطبيعية لدى العلماء الماديين.فما هي حقيقة هذه الطاقة ؟ هل باستطاعة العلماء أن يشاهدوها بأدواتهم وأن يعرفوا كنهها؟ وكيف أثبتوها؟
ألم يثبتوها بالاستنتاج العقلي استناداً إلى ما شاهدوه من ظواهرها وآثارها؟ هذه هي الحقيقة.
فما بال هؤلاء الملاحدة يسلمون بهذه القوانين الخارجة عن نطاق المشاهدات المادية ،وهي بالنسبة إلى حواسهم وإلى الأدوات العلمية المتقدمة أمور غيبية ، ثم ينكرون وجود الخالق جل وعلا لمجرد كونه خارجاً عن نطاق الإدراك الحسي ، ولا يمكن التواصل إلى إدراكه بالأجهزة العلمية المتقدمة؟
مع أن مئات الأدلة العقلية والاستنتاجية تثبت ضرورة وجود خالق عظيم لهذا الكون ، بيده مقاليد السماوات والأرض وهو على كل شيء قدير.
أليس هذا من المفارقات التي لا تستقيم مع البحث العملي والأمانة العلمية ؟ ) اهـ. (2)
إن التصديق بالشيء مع الجهل بكنهه ينزع الفكرة السائدة بأن الملاحدة لا يصدّقون إلا ما لامسته حواسّهم، وحقٌ أن لا يلام المؤمن الذي هو على ذات الدّرجة من التصديق فقد يعلم الشيء ولكن يجهل كنهه و بالتّالي التخلّي عن هذا المفهوم يعمل لصالح الملحد الذي يريد أن يرسم المؤمن بصورة الذي غيّب عقله بإيمانه الغيبي مع أنه تجاهل حاله، بل الأمر يشتد على الملحد من حيث لا يدري حيث أنهم لايزالون ليومنا هذا آمالهم معلّقة على أمور غيبية ولا عجب في ذلك فإن العلم إلى يومنا هذا لم يستطع أن يثبت عدم وجود إله وهنا يقف قانون السببية حجر عثرة أمام الملحدين الذين يستعملون هذا القانون في جميع مجالات حياتهم إلا في شأن خلق الكون وكأنهم ينظرون لهذه المسألة من برج عاجي (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَومازال أرباب العلم في انتظار اللحظة التي يعمل فيها العلم كائن حي من الكيماويات...إلخ. و يقين بحصول ذلك في المستقبل يدفعه اليوم إلى الإلحاد و هذا مخالف لما يلومون عليه المسلم الذي يقينه باليوم الآخر و الحياة في العالم الآخر تدفعه إلى الإسلام اليوم، فلاحظ التناقض الذي وقعوا فيه باتهامهم الآخر بالسفاهة والغلو رغم أن ما عندنا عندهم  وما اعتقدناه قائم على أساس منطقي بحت، بل أنّى لهم اليقين في عقيدتهم المبنيّة على مبدأ سين وسوف المستقبل وأنى لهم تفسير خلق الكون من اللاشيء إلا الرجم بالغيب والإنزواء على الذات تحت مظلّة "رمتني بدائها وانسلت". وصدق الله إذ قال: " إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ يَخْرُصُونَ"


(1): كتاب صرع مع الملاحدة حتى العظم ص211
(2): كتاب صرع مع الملاحدة حتى العظم ص74