نريد تفسيرا يا أهل الإلحاد 4


نواصل على بركة الله تعالى سلسلة نريد تفسيرا يا أهل الإلحاد ونكمل عرض الأحداث التي تتجلى فيها نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والمواقف التي تنادي صارخة أن أمره حق ورسالته حق فاتبعوه تفلحوا.
إن المكذبين والمشككين في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ادعوا أنه رجل ما أراد إلا الحياة الدنيا وزينتها وأشاعوا أنه صلى الله عليه وسلم طمح من خلال نبوته إلى الملك، وهذه السلسلة هي تفنيد لهذه الادعاءات الكاذبة والآراء الواهية فإن كان الرسول كما يقولون فليجيبوا وليبرروا سبب هذه المواقف والأفعال التي لا تصدر إلا من نبي يتلقى أمرا إلهي!!
إن الذي لا يكذب مزاحا وهزلا لا يكذب في الجد ، وإن الذي تشهد له أعداءه من أهل زمانه لحري أن يكون صادقا وما يقول إلا الحق ، يقول الدكتور عبد الودود شلبي:(وقد كانت سيرته صلى الله عليه وسلم تطبيقا لهذه السجايا وتلك الصفات عرف بها في حداثته كما عرف بها في نبوته وكان وهو صغير يلقب بالأمين وكانت قريش تعرف صدقه وهو صبي وحين أمر بتبليغ الدعوة وقف وقال : "هل جربتم علي كذبا ؟" قالوا جميعا :"لا ، ماجربنا عليك كذبا")1  ثم يواصل الدكتور واصفا سيرته صلى الله عليه وسلم:(لقد كان صادقا وكان شجاعا، حين فر الناس يوم حنين وقف وحده يستقبل بصدره سهام العدو ويقول : أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب وفعل مثل ذلك يوم أحد حين تقهقر جيش المسلمين ولم يثبت حوله غير اثني عشر رجلا وبقي في هذا الموقف الخالد يجاهد ويقاوم ويرمي عن قوسه حتى طارت الشظايا ، وحتى كسرت رباعيته وجرحت شفته وشج وجهه الكريم روى البيهقي قال : فوالذي بعثه بالحق مازلت قدمه شبرا واحدا ، وأنه لقي وجه العدو تفئ أصحابه إليه مرة وتفترق عليه مرة وهو قائم يرمي عن قوسه ويرمي بالحجر حتى انحازوا عنه.)
ولا شك أن العاقل المنصف إذا تدبر هذه الأحداث وقف عليها برهة لينهل من معانيها العطرة ومن سماتها الطيبة فهي لرجل ما أراد دنيا بل ما ترك شيئا منها ليخشى عليه ولا تذكر زينة فيها لتردعه عن الجهاد في سبيل الله، لقد فر أصحابه وبقي وحيدا مع زمرة قليلة منهم في معركة دامية وهو الرجل المطلوب وهو القائد المراد من قبل أعداءه ولكنه يصيح قائلا في وجه المشركين لسمعه أصحابه الذين أدبروا "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب". يصيح في صفوف المشركين وبين أظهرهم ليجسد شجاعة لا مثيل لها وكل هذه التضحية ليعيد تشكيل مركز المقاتلين وقلب الجيش وليلتف المسلمون حوله، لكن سرعان ما ينهال عليه المشركون بسهامهم وسيوفهم وتالله لو كان ملكا أو حتى قائد جيش فقط لوجدته أول المدبرين من المعركة بل لوجدته يضحّي بالجنود للنجاة من العدو، لكنه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يقول:" والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل."2 وقد عرضنا في ما سبق العديد من المواقف المماثلة والعبر التي تستحق التمحيص والتدقيق. وانظر بارك الله بك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن كوّن مدينة صغيرة فيها بضعة آلاف من المسلمين، فما فتر في الدعوة للإسلام وما استكان وما خشي وخاف إلا الله تعالى فتجد هذه الدولة الصغيرة الفتية الحديثة ترسل إلى أعظم الإمبراطوريات حولها أن قد جائكم رسول الله بالحق وهو لكم نذير مبين بين يدي عذاب شديد، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم للفرس والروم واليمن والحبشة ومصر وقبائل عربية وغيرها، لكن ما هو الدافع وما هو الحافز لذلك! أن تلتفت إليه الأنظار من جميع أصقاع الأرض أمر  خطير! أكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبغي الملك! إن الملك الذي يريد أن تدوم مملكته يرسل الهدايا للروم والفرس ويبعث لهم المال والكنوز والجواهر .. ليوطد العلاقات وليكونوا عونا له على أعدائه ويساعدوه في المحن والأزمات أما أن تجد ملكا يرسل رسول إليهم أن ادخلوا في ديني وأسلموا فالملوك حينها تعتبرها رسالة تهديد ورسالة وعيد شديد فضلا على أن يقول لهم "عليك إثم (رعيتك)" وإذا علموا أن المرسل من الـ"عرب" البدو الرحل فهو أمر له تبعات عديدة خاصة إذا علمت أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلب مودتهم ولم يرسل إليهم الهدايا فما أرسل لهم إلا رسول ليعلمهم ودون مقدمات أن اسلموا تفلحوا في الدنيا والآخرة!! فهنا كلمة ملك تستحق المراجعة !! ليس ملكا .. بل رسول .. هو رسول لم يخشاهم ولم يخافهم، ومن التبعات لهذه الرسائل للفرس والروم أن قتل رسوله صلى الله عليه وسلم في بلاد فارس وبعثت الروم الجنود الكثيرة لاستئصال شوكة المسلمين فبلغ عدد المقاتلين منهم مئات الآلاف في حين كان عدد المسلمين لا يتجاوز أربعة آلاف لكن هيهات أن يخمدوا نور رسالة التوحيد وهنا أيضا نجد هذه الأخبار ساطعة على حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم، محمد رسول الله، ما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغ "ملك" تلك البلاد لكنه أراد أن يبلغ رسالة ربه إليهم الذي قال له:"بلّغ ما أنزل إليك من ربّك"، وهو الذي قال لبعض أصحابه الذين بقوا أمام بابه ليحرسوه حين نزلت هذه الآية "الحقوا بملاحقكم فإن الله قد عصمني" وهذا في الصحيح وقد نقل عن بعض العلماء أن سبب هذه الحادثة نزول آية: (يأيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فمّا بلغت رسالاته)، فتفكر في شجاعته صلى الله عليه وسلم وثقته في ربه، فلا الفرس والروم تحط من عزيمته ولا يهود المدينة الخونة قتلة الأنبياء يخشاهم، إنها معاني شهادة التوحيد، شهادة ألا إله إلا الله.

 ويقول الدكتور عبد الودود شلبي واصفا حال النبي صلى الله عليه وسلم:(وكما كان صادقا وشجاعا ، كان كذلك كريما وسخيا لكن كرم النبي صلى الله عليه وسلم كان لونا آخر لم يعرفه العرب ، لم يكن جوده للفخر ولا للمباهاة ولكنه كان جودا في ذات الله ، لوجه الله كان في رعاية اليتامى وفي تحرير الأرقاء وفي تأليف القلوب ، وكان كرم النبي صلى الله عليه وسلم إيثارا على نفسه وعلى أهله ، فكان يعطي وهو أشد ما يكون إلى هذا العطاء ، وما سئل عن شيء قط إلا أعطاه ، وما سئل شيئا وقال لا أتاه رجل سأله فأعطاه غنما سدت ما بين جبلين فرجع الرجل إلى قومه فقال :" أسلموا فإن محمد صلى الله عليه وسلم يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة ".  وحمل إليه تسعون ألف درهم فوضعها في حصير ثم قام إليها فقسمها فما رد سائلا حتى فرغ منها. ولما قفل من حنين جاءه الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى شجرة ثم خطفوا ردائه فوقف وقال : أعطوني ردائي ، لو كان لي عدد هذه العضات (شجرة بالصحراء) نعما لقسمتها بينكم ثم لا تجدونني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا). ولنتذكر سويا ما كان يروج إليه البعض، ممن نصبوا العداء لرجل فذ صادق شجاع كريم كهذا، فقد وصفوه بأنه طالب دنيا وطالب مال !! وبعد أقوال الدكتور شلبي لا يسع المرء إلا أن يصف هذه الأقوال بالترهات وبالتفاهة ويصف قائلها بالسفاهة، فأي دنيا يصيبها وهو الذي لا يبغي حصيرا يتكئ عليه !! إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:(ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظل تحت شجرة ثم راح وتركها. ( حسن صحيح ) _ وسببه فيما قال ابن مسعود اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فأثر في جنبه فلما استيقظ جعلت أمسح جنبه فقلت يا رسول الله ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الحديث)).3
وفي عدل وانصاف الرسول صلى الله عليه وسلم ترى العجب العجاب، لعمري إنه لعدل وانصاف ترتسم فيها نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم في أبهى حلة ومن المحال أن يوصف رجل بهذه الأخلاق بالظلم ويقينا أجزم أن هذا الرجل لا يمكن أن يظلم فتيلا ومحال أن يعتدي على حق أحد مقدار أنملة فاستمع لقول الدكتور شلبي مواصلا وصف الرسول صلى الله عليه وسلم:(وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صادقا كريما وشجاعا ، وكان كذلك عادلا منصفا، ينصف حتى من نفسه ومن أهل بيته ومن أحب الناس إليه، كان يسوى صفوف المقاتلة يوم بدر فمر برجل اسمه سواد بن غزيه وقد برز بطنه فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم بالقدح وقال : استو يا سواد ، فقال : يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق فأقدني فكشف الرسول صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال اسقتد يا سواد، فعانقه سواد وقبل بطنه ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:  ماحملك على هذا يا سواد ؟؟ قال يا رسول الله حصل ما ترى فلم آمن القتل فأردت أن يكون آخر عهد بك أن يمس جلدي جلدك !! وحين سرقت المرأة المخزومية وثبت عليها حد القطع ذهب أسامة بن زيد يتشفع لها عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام : إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا الحد ، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها).
عدل ما بعده عدل وإنصاف ما بعده إنصاف، فالرجل الأعلى والرسول الأكرم وقائد المعركة يقول لجندي عادي استقد، ثم تجده رادا لشفاعة الصحابي الجليل أسامة في امرأة شريفة مجسدا مبادئ العدل التام ويسوي بين أبسط مواطن وبين ابنته صلى الله عليه وسلم!! فمنكر رسالته ادعى أن بيده الشريعة وأن بيده التحليل والتحريم ويدعي أن له النسخ يسيره كيف يشاء فسؤالي موجه لمن يبغي الحق أينما كان: لماذا لا يستعمل محمد صلى الله عليه وسلم هذه الحقوق ويغير الشريعة لصالحه وأهله!! اعلم أن طالب الحق يكفيه دليل وصاحب هوى لا يكفيه ألف دليل، فإن لم تجد إجابة عن هذا فاعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نبي مرسل من رب العالمين الذي قال: أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ.
واختم بشهادة فولتر لرسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطبا القساوسة في زمانه ومخاطبا أيضا عقولنا نحن لنقلب سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مستفسرين على الأسباب التي قادت النبي صلى الله عليه وسلم لأفعال أبعد ما يكون عن أفعال الملوك ونبحث عن الإجابة الفصل والتي تتلخص في إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم. قال فولتر للقساوسة ( طبعة 1ع822 جزء 6 ص 4):
(أكرر لكم القول أيها الجهلة الأغبياء الذين غرّر بهم جهلة أغبياء وأفهموهم أن عقيدة محمد عقيدة لذّات وجنس وقوامها الشهوات المادية فى حين أنها أبعد ما تكون عن هذا الوصف، لقد خدعتم فى هذه الناحية كما خدعتم فى نواح أخرى عديدة، أيها الأساقفة والرهبان والقسس، إذا فُرض عليكم قانون يُحرِّم عليكم الطعام من الرابعة صباحًا حتى العاشرة مساء فى شهر يوليو ـ أى فى وقذة الصيف ـ عندما يحل الصيام فى هذا الشهر ؟ وإذا حَرَّم عليكم لعب الميسر وإلا استهدفتم للعنة الله، وإذا حرَّم عليكم شرب الخمور والأنبذة تحت التهديد بالجزاء نفسه، وإذا فرض عليكم الحج فى صحراء محرقة، وإذا فرض عليكم إعطاء 2.5% من أموالكم للفقراء، وإذا كنتم تتمتعون بزوجات تبلغ ثمان عشرة زوجة أحيانًا فجاء من يحذف أربع عشرة من هذا العدد، فهل يمكنكم الادعاء مخلصين بأن هذه الشريعة شريعة لذّات وجنس ؟‍‍‍‍ ).‍ 

ثم قال فولتير:

(لقد هدم محمد الضلال السائد فى العالم على عهده ، وقام بالكفاح المفروض على الإنسان لبلوغ الحقيقة ولكن يبدو أنه يوجد دائمًا من يعملون على استبقاء الباطل وحماية الخطأ.)4





- - - - - - - - - - - - - -

1) كلام الدكتور عبد الودود شلبي المذكور في المقال من كتابه :"من أجمل ما قرأت" ص38-39
2) حديث رقم 3498 صحيح الألباني
3) 438 صحيح الألباني
4) كتاب هل انتشر الإسلام بالسيف؟ ص207